التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ
٦
وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ
٧
وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ
٨
فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ
٩
وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
١٠
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ
١١
-الضحى

اللباب في علوم الكتاب

ثم أخبر الله تعالى عن حاله التي كان عليها قبل الوحي, وذكره نعمه, فقال: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ }، العامة على: "فآوى" بألف بعد الهمزة رباعياً.
وأبو الأشهب: "فأوى" ثلاثياً.
قال الزمخشري: "وهو على معنيين: إما من "أواه" بمعنى "آواه" سمع بعض الرعاة يقول: أين آوي هذه الموقسة؟ وإما من أوى له، إذا رحمه". انتهى.
وعلى الثاني قوله: [الطويل]

5240- أرَانِي ولا كُفْرانَ للَّــهِ أيَّــةَ لنَفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنيلِ

أي: رحمة لنفسي، ووجه الدلالة من قوله "أين آوي هذه"، أنه لو كان من الرباعي [لقال: أُأْوي - بضم الهمزة الأولى وسكون الثانية - لأنه مضارع آوى مثل أكرم، وهذه الهمزة] المضمومة هي حرف المضارعة، والثانية هي فاء الكلمة، وأما همزة "أفْعَل" فمحذوفة على القاعدة، ولم تبدل هذه الهمزة كما أبدلت في "أومن" لئلا يستثقل بالإدغام، ولذلك نص الفراء على أن "تُؤويهِ" من قوله تعالى { { وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ } [المعارج: 13] لا يجوز إبدالها للثقل.
فصل
قال ابن الخطيب: "يَجدْكَ" من الوجود الذي بمعنى العلم، والمفعولان منصوبان بـ "وجد"، والوجود من الله العلم، والمعنى: ألم يعلمك الله يتيماً فآوى.
قال القرطبي: "يَتِيْماً" لا أب لك، قد مات أبوك، "فآوى"، أي: جعل لك مأوى تأوى إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك.
وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه؟.
فقال: لئلاَّ يكون لمخلوق عليه حق.
وعن مجاهدٍ: هو من قول العرب: درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل، فمجاز الآية ألم يجدك واحداً في شرفك، لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك، ويحوطونك.
فصل في جواب سؤال
أورد ابن الخطيب هنا سؤالاً: وهو أنه كيف يحسن من الجواد أن يمن بنعمة، فيقول: { ألمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى }، ويؤكد هذا السؤال أن الله - تعالى - حكى عن فرعون قوله لموسى عليه الصلاة والسلام:
{ { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [الشعراء: 18] في معرض الذَّم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون، كيف يحسن من الله تعالى؟ قال: والجواب: أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك تقوية قلبه، ووعده بدوام النعمة، ولهذا ظهر الفرق بين هذا الامتنان، وبين امتنان فرعون، لأن امتنان فرعون معناه: فما بالك لا تخدمني، وامتنان الله تعالى: زيادة نعمه، كأنه يقول: ما لك تقطع عني رجاءك، ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعته، بل لا بد وأ أتمّ النعمة كما قال تعالى: { { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [البقرة: 150].
فإن قيل: إن الله تعالى منَّ عليه بثلاثة أشياء، ثم أمره أن يذكر نعمة ربه، فما وجه المناسبة؟.
فالجوابُ: وجه المناسبة أن تقول: قضاء الدين واجب، والدين نوعان: مالي وإنعامي، والإنعامي أقوى وجوباً لأن المال قد يسقط بالإبراء، والإنعامي يتأكد بالإبراء، والمالي يقضى مرة فينجو منه الإنسان، والإنعامي يجب عليه قضاؤه طول عمره، فإذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم، هو مملوك، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم المالك، فكان العبد يقول: إلهي أخرجتني من العدم، إلى الوجود بشراً مستوياً، طاهر الظاهر نجس الباطن، بشارة منك، تستر عليَّ ذنوبي بستر عفوك، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حصر لها، فيقول تبارك وتعالى: الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق [عبيدي ذلك، وكنت عائلاً فأغنيتك، فافعل في حق] الأيتام ذلك ثم إذا فعلت كل ذلك، فاعلم أنما فعلته بتوفيقي، ولطفي، وإرشادي، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم.
قوله: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ }، أي: غافلاً عما يراد بك من أمر النبوة فهداك أي: أرشدك، والضلال هنا بمعنى الغفلة، لقوله تعالى:
{ { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [طه: 52] أي: لا يغفل، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: { { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَافِلِينَ } [يوسف: 3] وقيل: معنى قوله: "ضالاًّ" لم تكن تدري القرآن، والشرائع، فهداك اللهُ إلى القرآن، وشرائع الإسلام، قاله الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. قال تعالى: { { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ } [الشورى: 52] على ما تقدم في سورة الشورى.
وقال السديُّ والكلبي والفراء: وجدك ضالاًّ، أي: في قوم ضلال، فهداهم الله بك، أو فهداك إلى إرشادهم.
وقيل: وجدك ضالاً عن الهجرة، فهداك وقيل: "ضالاً"، أي: ناسياً شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهفِ، وذي القرنين، والروح، فأذكرك، لقوله تعالى:
{ { أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [البقرة: 282].
وقيل: ووجدك طالباً للقبلة فهداك إليها، لقوله تعالى:
{ { قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 144]، ويكون الضلال بمعنى الطلب؛ لأن الضال طالب.
وقيل: وجدك ضائعاً في قومك، فهداك إليهم، ويكون الضلال بمعنى الضياع.
وقيل: ووجدك محباً للهداية، فهداك إليها؛ ويكون الضلال بمعنى المحبة ومنه قوله تعالى:
{ { قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف: 95]، أي: في محبتك.
قال الشاعر: [الكامل]

5241- هَذا الضَّلالُ أشَابَ منِّي المفْرِقَا والعَارضَينِ ولَمْ أكُنْ مُتحقِّقَا
عَجَبـاً لعـزَّة في اخْتِيَـارِ قَطيعَتِــي بَعْــدَ الضَّـلالِ فحِبْلُهَــا قـَدْ أخْلقَــا

وقيل: ضالاً في شعاب "مكة"، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب.
وقال كعب - رضي الله عنه -: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتردهُ على عبد المطلب، فسمعت عند باب "مكة": هنيئاً لك يا بطحاء "مكة"، اليوم يرد إليك الدين والبهاء والنور والجمالُ، قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقالوا: لم نر شيئاً فصحتُ: وامحمداه، فإذا شيخ فإن يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده إليك فعل، ثم طاف الشيخ بالصَّنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضلّ، فرده إن شئت، فانكبّ هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام؛ وقالت: إليك عنا أيها الشيخ, فهلاكُنَا على يدي محمد, فألقى الشيخ عصاه, وارتعد, وقال: إن لابنك رباً لا يضيعه فاطلبيه على مهل، فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع "مكة"، فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرع إلى الله أن يرده؛ وقال: [الرجز]

5242- يـا ربِّ، رُدَّ ولَـدِي مُحَمَّـداً أرْدُدْهُ ربِّـي واصْطَنِـعْ عِنْـدِي يَــدَا

فسمعوا منادياً ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربَّا لا يضيعه ولا يخذله، وإن محمداً بوادي "تهامة"، عند شجرة السَّمُرِ، فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالإغصان وبالورق.
وفي رواية: فما زال عبد المطلب يردد البيت حتى أتاه أبو جهل على ناقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين يديه، وهو يقول: ألا تدري ماذا جرى من ابنك؟.
فقال عبد المطلب: ولم؟ قال: إني أنخت الناقة، وأركبته خلفي فأبت الناقة أن تقوم، فلما أركبته أمامي قامت النَّاقة.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: رده إلى جده وبيد عدوه، كما فعل بموسى - عليه الصلاة والسلام - حين حفظه عند فرعون.
وقال سعيد بن جبيرٍ: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل بها على الطريق، فجاء جبريل - عليه السلام - فنفخ لإبليس نفخة وقع منها إلى أرض "الهند"، ورده إلى القافلة صلى الله عليه وسلم.
وقيل: ووجدك ضالاً ليلة المعراج حين انصرف عنك جبريل، وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدى بها إلى الطريق، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "ووجَدَكَ ضالاًّ" أي لا أحد على دينك، بل وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي.
وقيل: ووجدك مغموراً في أهل الشرك، فميزك عنهم، يقال: ضل الماءُ في اللبن، ومنه
{ { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة: 10]، أي: لحقنا بالتراب عند الدَّفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته وقيل: ضالاًّ عن معرفة الله حين كنت طفلاً صغيراً، كقوله تعالى: { { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [النحل: 78] فخلق فيك العقل والهداية والمعرفة، فالمراد من الضال الخالي من العلم لا الموصوف بالاعتقاد، قيل: قد يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد قومه فقوله تعالى: { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىٰ } أي وجد قومك ضلالاً فهداهم بك.
وقيل: إنه كان على ما كان القوم عليه لا يظهر لهم في الظاهر الحال، وأما الشرك فلا يظن به على مواسم القوم في الظاهر أربعين سنة.
وقال الكلبي والسدي أي وجدك كافراً والقوم كفاراً فهداك، وقد مضى الرد على هذا القول في سورة الشورى.
قوله: { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَىٰ }، العائل: الفقير، وهذه قراءة العامة يقال: عال زيد، أي: افتقر.
قال الشاعر: [الوافر]

5243- ومَا يَدْري الفَقِيرُ متَى غِنَاهُ ومَا يَدْرِي الغَنِيُّ متَى يَعِيلُ

وقال جرير: [الكامل]

5244- اللهُ أنْزَلَ في الكِتَابِ فَريضَةً لابْنِ السَّبِيلِ وللفَقِيرِ العَائِلِ

وقرأ اليماني: "عيِّلاً" بكسر الياء المشددة كـ "سيد".
وقال ابن الخطيب: العائل ذو العيلة، ثم أطلق على الفقير لم يكن له عيال، والمشهور أن المراد به الفقير، ويؤيده ما روي في مصحف عبد الله: "وَوَجَدَكَ عديماً".
وقوله تعالى: { فَأَغْنَىٰ }، أي: فأغناك خديجة وتربية أبي طالب، ولما اختل ذلك أغناك بمال أبي بكر - رضي الله عنه -، ولما اختل ذلك أمره بالهجرة وأغناه بإعانة الأنصار - رضي الله عنهم -، ثم أمره بالجهاد، وأغناه صلى الله عليه وسلم بالغنائم.
[وقال مقاتل: أغناك بما أعطاك من الرزق.
وقال عطاء: وجدك فقير النفس، فأغنى قلبك، وقيل: فقيراً من الحجج والبراهين، فأغناك بها].
قوله: { فَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ }. اليتيم منصوب بـ "تَقْهَرْ"، وبه استدل ابن مالك على أنه لا يلزم من تقديم المعمول تقديم العامل؛ ألا ترى أنَّ اليتيم منصوب بالمجزوم، وقد تقدم الجازم، لو قدمت المجزوم على جازمه، لامتنع، لأن المجزوم لا يتقدم على جازمه، كالمجرور لا يقدم على جاره.
وتقدَّم ذلك في سورة هود عليه السلام عند قوله تعالى:
{ { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [هود: 8].
وقرأ العامة: "تَقْهَر" بالقاف من الغلبة، وابن مسعود، والشعبي، وإبراهيم النخعي والأشهب العقيلي، "تكهر" بالكاف. كهر في وجهه: أي عبس، وفلان ذو كهرة، أي: عابس الوجه.
ومنه الحديث:
"فَبِأبِي هُوَ وأمِّي فوالله ما كهرني" .
قال أبو حيان: "وهي لغة بمعنى قراءة الجمهور" انتهى.
والكهر في الأصل: ارتفاع النهار مع شدة الحر.
وقيل: الكهر: الغلبة، والكهر: الزجر. والمعنى: لا تسلط عليه بالظلم، بل ادفع إليه حقه، واذكر يتمكَ. قاله الأخفش.
وقال مجاهدٌ: لا تحتقر. وخص اليتيم، لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في تأثير العقوبة على ظالمه، والمعنى: عامله كما عاملناك به، ونظيره:
{ { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص: 77].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الله الله فيمَنْ لَيْسَ له إلا الله" .
فصل
دلت الآية على اللطف باليتيم وبره والإحسان إليه، قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَمَّ يَتِيمَاً فَكَانَ فِي نَفَقَتِهِ وكفاهُ مؤنَتَهُ، كَانَ لَهُ حِجَابَاً مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ" .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَسَحَ برأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرةً حَسَنةٌ" .
فصل
الحكمة في أن الله تعالى اختار لنبيه اليتم، أنه عرف حرارة اليتم، فيرفق باليتيم، وأيضاً ليشاركه في الاسم، فيكرمه لأجل ذلك، لقوله - عليه الصلاة والسلام -:
"إذَا سَمَّيْتُم الوَلَدَ مُحَمَّداً فأكْرِمُوهُ ووسِّعُوا لَهُ فِي المَجْلسِ" وأيضاً ليعتمد من أول عمره على الله تعالى، فيشبه إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في قوله: "حَسْبي مِنْ سُؤالِي، علمهُ بِحَالِي".
وأيضاً فالغالب أن اليتيم تظهر عيوبه فلما لم يجدوا فيه عيباً، لم يجدوا فيه مطعناً.
وأيضاً جعله يتيماً، ليعلم كل أحد فضيلته ابتداء من الله تعالى، لا من التعليم، لأن من له أب فإن أباه يعلمه، ويؤدبه.
وأيضاً فاليتم والفقر نقص في العادة، فكونه صلى الله عليه وسلم مع هذين الوصفين من أكرم الخلق كان ذلك قلباً للعادة، فكان معجزة ظاهرة.
قوله تعالى: { وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ }، أي: فلا تزجره، يقال: نهره، وانتهره إذا زجره، وأغلظ له في القول، ولكن يرده ردَّا جميلاً.
[قال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال، يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء.
وقيل: المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"سَألتُ ربِّي مَسْألةً ودِدْتُ أنِّي لَمْ أسْألْهَا، قُلْتُ: يَا ربِّ، اتَّخذتَ إبْراهِيمَ خَلِيلاً، وكلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً، وسخَّرتَ مَع دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبِّحْنَ، وأعطيتَ فُلاناً كَذَا فقال عز وجل: ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فَأويتك؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضالاً فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدكَ عائِلاً فَأَغْنَيْتُكِ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ أَلَمْ أُوتِكَ مَا لَمْ أُوتِ أَحَدَاً قبلَكَ خَوَاتِيِمَ سورةِ البقرة؟ أَلَمْ أَتَّخِذُكَ خَلِيْلاً كَمَا اتَّخَذْتُ إبراهيمَ خليلاً؟ قلت: بلى يا ربِّ" .
قوله: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }. الجار متعلق بـ "حدِّثْ" والفاء غير مانعة من ذلك قال مجاهدٌ: تلك النعمة هي القرآن والحديث.
وعنه أيضاً: تلك النعمة هي النبوة، أي: بلغ ما أنزل إليك من ربك قيل: تلك النعمة هي أن وفقك الله تعالى، ورعيت حق اليتيم والسائل، فحدث بها؛ ليقتدي بك غيرك.
وعن الحسين علي - رضي الله عنهما - قال: إذا عملت خيراً فحدث به الثقة من إخوانك ليقتدوا بك. إلا أنَّ هذا لا يحسن إلا إذا لم يتضمن رياء، وظن أن غيره يقتدي به.
"وروى مالك بن نضلة الجشمي، قال: كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآني رثَّ الثياب فقال: أَلَكَ مَالٌ؟.
قلت: نعم، يا رسول الله، من كل المال، قال: إذَا آتَاكَ اللهُ مالاً فليُرَ أثرهُ عَلَيْكَ"
.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ويُحِبُّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتِهِ على عَبْدِهِ" .
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله أخر نفسه على حق اليتيم والسائل؟.
فالجواب: كأنه سبحانه وتعالى يقول: أنا غني، وهما محتاجان، وحق المحتاج أولى بالتقديم، واختار قوله: "فحدث" على قوله "فخبِّرْ" ليكون ذلك حديثاً عنه وينساه، ويعيده مرة أخرى.
فصل
يكبر القارىء في رواية البزي عن ابن كثير, وقد رواه مجاهد عن ابن عباس, وروي عن أبيّ بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بلغ آخر "الضُّحَى" كبَّر بين كلِّ سورةٍ تكبيرة إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيرة، بل يفصل بينهما بسكتة، وكأن المعنى في ذلك أن الوحي تأخّر عن النبي صلى الله عليه وسلم أياماً، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه، فنزلت هذه السورة فقال: "اللهُ أكْبَرُ".
قال مجاهد: قرأت على ابن عبّاس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبيٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يكبر في [رواية] الباقين، لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن.
قال القرطبي: القرآن ثبت نقله بالتواتر سُوَره، وآياته، وحروفه بغير زيادةٍ، ولا نقصان، وعلى هذا فالتكبير ليس بقرآن.
روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأَ سُورَةَ { وَٱلضُّحَىٰ } كان فيمن يرضاه الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يشفع له، وكتب الله تعالى له من الحسنات بعدد كل يتيم وسائل" . والله أعلم.