التفاسير

< >
عرض

وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ
١
وَطُورِ سِينِينَ
٢
وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ
٣
لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ
٤
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ
٥
إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
٦
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ
٧
أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ
٨
-التين

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ }.
قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبيُّ: هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت قال تعالى:
{ { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِٱلدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } [المؤمنون: 20] ومن خواص التين: أنه غذاء وفاكهة، وهو سريع الهضم لا يمكث في المعدة، ويقلل البلغم، ويطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح مسام الكبد والطحالِ.
وروى أبو ذر - رضي الله عنه - قال:
"أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم سلٌّ من تينٍ، فقال: كُلُوا وأكَلَ مِنهُ، ثُمَّ قال لأصْحَابهِ: كُلُوا؛ لَوْ قُلتُ: إنَّ فَاكهَةً نَزلَتْ مِنَ الجنَّةِ، لقُلْتُ: هَذهِ، لأنَّ فَاكِهَة الجنَّةِ بِلاَ عجمٍ، فكُلُوهَا، فإنَّهَا تَقْطَعُ البَواسيرَ، وتَنْفَعُ مِنَ النقرسِ" .
وعن علي بن موسى الرضى: "التين" يزيل نكهة الفم، ويطول الشعر، وهو أمان من الفالج، وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة.
وعن معاذ - رضي الله عنه - أنه استاك بقضيب زيتون، وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"نِعْمَ السواكُ الزَّيتُون، مِنَ الشَّجرةِ المُبارَكَةِ، يُطيِّبُ الفَمَ، ويُذْهِبُ الحَفَرَ، وهِيَ سِوَاكِي وسِواكُ الأنْبِيَاء من قَبْلِي" .
وعن ابن عباس: "التين" مسجد نوح - عليه الصلاة والسلام - الذي بني على الجودي والزيتون: "بيت المقدس".
وقال الضحاك: التين: "المسجد الحرام"، والزيتون: "المسجد الأقصى".
وقال عكرمة وابن زيد: التين: "مسجد دمشق"، والزيتون: "مسجد بيت المقدس" [وقال قتادة: "التين: الجبل الذي عليه "دمشق"، والزيتون الذي عليه "بيت المقدس".
وقال محمد بن كعب - رضي الله عنه -: التين: مسجد أصحاب الكهف والزيتون "إيليا".
وقال عكرمة وابن زيد: التين: "دمشق"، والزيتون: "بيت المقدس"] وهذا اختيار الطبري.
وقيل: هما جبلان بالشام يقال لهما: طور زيتا وطور تينا بالسريانية، سميا بذلك لأنهما ينبتان التين والزيتون.
قال القرطبيُّ: "والصَّحيحُ الأولُ، لأنه الحقيقة، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل".
قوله: { وَطُورِ سِينِينَ }. الطُّور جبل، و "سنين" اسم مكان، فأضيف الجبل للمكان الذي هو به.
قال الزمخشريُّ: "ونحو "سينون يبرون" في جواز الإعراب بالواو والياء، والإقرار على الياء، وتحريك النون بحركات الإعراب".
وقال أبو البقاء: هو لغة في "سيناء". انتهى.
وقرأ العامة: بكسر السين، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن ميمون، وأبو رجاء: بفتحها وهي لغة بكر وتميم.
وقرأ عمر بن الخطَّاب، وعبيد الله، والحسن، وطلحة: سيناء بالكسر والمد.
وعمر - أيضاً - وزيد بن علي: بفتحها والمد
قال عمر بن ميمون: صليتُ مع عُمرَ بن الخطَّاب - رضي الله عنه - العشاء بـ "مكة"، فقرأ: { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينَاءَ وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ } قال: وهكذا في قراءة عبد الله، ورفع صوته تعظيماً للبيت، وقرأ في الثانية بـ { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ }، و { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }. جمع بينهما. ذكره ابن الأنباري. [وقد تقدم في "المؤمنين"، وهذه لغات اختلفت في هذا الاسم السرياني علىعادة العرب في تلاعبها بالأسماء الأعجمية].
وقال الأخفش: "سِيْنين" شجر، الواحدة "السينينة"، وهو غريب جداً غير معروف عند أهل التفسير [وقال مجاهد: وطور جبل سينين، أي: مبارك بالسريانية، وهو قول قتادة والحسن.
وعن ابن عباس: سينين أي: حسن بلغة الحبشة].
وعن عكرمة قال: هو الجبل الذي نادى الله تعالى منه موسى عليه السلام.
وقال مقاتل والكلبي: "سِيْنين" كل جبل فيه شجرٌ وثمرٌ، فهو سينين وسيناء، بلغة النبط.
وقال أبو علي: "سينين": "فعليل"، فكررت اللام التي هي نون فيه، كما كررت في "زحليل" للمكان الزلق، و "كرديدة": للقطعة من التمر، وخنديدة: للطويل.
ولم ينصرف "سينين" كما لم ينصرف "سيناء" لأنه جعل اسماً لبقعة، أو أرض، ولو جعل اسماً للمكان، أو المنزل، أو اسم مذكر لانصرف، لأنك سميت مذكراً بمذكر.
وإنما أقسم بهذا الجبل، لأنه بالسَّنام والأرض المقدسة، وقد بارك الله فيهما، كما قال:
{ { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [الإسراء: 1].
ولا يجوز أن يكون "سينين" نعتاً للطور، لإضافته إليه.
قوله: { وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ }. يعني "مكة"، والأمين على هذا "فعيل" للمبالغة، أي: أمن من فيه ومن [دخله من إنس، وطير، وحيوان، ويجوز أن يكون من أمن للرجل بضم الميم أمانة، فهو أمين، وأمانته حفظه من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل كما وصف بالأمن في قوله تعالى]
{ { أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [العنكبوت: 67] يعني ذا أمن.
قال القرطبيُّ: "أقسم الله تعالى بجبل "دمشق"، لأنه مأوى عيسى -عليه الصلاة والسلام - وبجبل بيت المقدس، لأنه مقام الأنبياء - عليهم السلام، و بـ "مكة" لأنها أثر إبراهيم، ودار محمد صلى الله عليه وسلم".
قوله: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ }، هذا جواب القسم [وأراد بالإنسان الكافر.
قيل: هو الوليد بن المغيرة.
وقيل: كلدة بن أسيد فعلى هذا نزلت في منكري البعث.
وقيل: المراد بالإنسان]: آدم - عليه الصلاة والسلام - وذريته.
وقوله: { فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } صفة لمحذوف، أي: في تقويم أحسن تقويم.
وقال أبو البقاء: "فِي أحسن تَقْويمٍ" في موضع الحال من الإنسان، وأراد بالتقويم: القوام؛ لأن التقويم فعل، وذاك وصف للخالق لا المخلوق، ويجوز أن يكون التقدير: في أحسن قوام التقويم، فحذف المضاف، ويجوز أن تكون "فِي" زائدة، أي: قوَّمنَا أحسن تقويمٍ انتهى.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: أحسن تقويم، واعتداله، واستواء أسنانه، لأنه خلق كلَّ شيء منكباً على وجهه، وخلق هو مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها.
قال ابن العربي: ليس لله - تعالى - خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً، عالماً، قادراً، مريداً، متكلماً، سميعاً، بصيراً، مدبراً، حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه، وعنها عبر بعض العلماء، ووقع البيان بقوله: إن الله خلق آدم عليه السلام على صورته يعني: على صفاته التي قدمنا ذكرها، وفي رواية "عَلَى صُورةِ الرَّحْمَن" ومن أين تكون للرحمن صورة مشخصة، فلم يبق إلا أن تكون معاني.
روي أن عيسى بن موسى الهاشمي، كان يحبُّ زوجته حبًّا شديداً، فقال لها يوماً: أنت طالقٌ ثلاثاً إنْ لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه، وقالت: طلقتني، وبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور، فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور جزعاً عظيماً، فاستحضر الفقهاء واستفتاهم، فقال جميع من حضر: قد طلقت, إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة، فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور: ما لك لا تتكلم؟.
فقال له الرجل: بسم الله الرحمن الرحيم: { وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ ٱلأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }، يا أمير المؤمنين، فالإنسان أحسنُ الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى: الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك، وأرسل أبو جعفر المنصور إلى زوجة الرجل أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقك.
فهذا يدلك على أنَّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى باطناً وظاهراً، جمال هيئة، وبديع تركيب، الرأس بما فيه، والبطن بما حواه، والفَرْج وما طواه، واليدان وما بطشتاه، والرجلان وما احتملتاه، ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر؛ إذ كل ما في المخلوقات أجمع فيه.
قوله: { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ }. يجوز في "أسْفلَ سافِلينَ" وجهان:
أحدهما: أنه حال من المفعول.
والثاني: أنه صفة لمكان محذوف، أي: مكاناً أسفل سافلين.
وقرأ عبد الله: "السَّافلين" معرفاً.
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد إلى أرذل العمر، وهوالهرم بعد الشباب والضعف بعد القوة. [وقال ابن قتيبة السافلون هم الضعفاء الزمناء، ومن لم يستطع حيلة يقال: سفل يسفل فهو سافل، وهم سافلون كما تقول: علا يعلو فهو عال وهم عالون].
وعن مجاهد وأبي العالية: "أسفل سافلين" إلى النار، يعني الكافر.
قال علي رضي الله عنه: أبواب جهنَّم بعضها أسفل من بعض، فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل السافلين. وعلى هذا التقدير: ثم رددناه إلى أسفل، وفي أسفل السافلين.
قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } فيه وجهان:
أحدهما: متصل على أن المعنى: رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني أقبح من قبح خلقه، وأشوههم صورة، وهم أهل النار، فالاتصال على هذا واضح.
والثاني: أنه منقطع على أن المعنى: ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في الحسن والصورة والشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوس ظهره، وضعف بصره وسمعه والمعنى: ولكن والذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم، وصبرهم على الابتداء بالشيخوخة، ومشاق العبادة، قاله الزمخشري ملخصاً، وقال: أسفل سافلين على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع.
قال الفرَّاء: ولو قال: أسفل سافل جاز، لأن لفظ الإنسان واحد كما تقول: هذا أفضل، ولا تقول: أفضل قائمين، لأنك تضمر الواحد، فإن كان الواحد غير مضمور له، رجع اسمه بالتوحيد، والجمع، كقوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [الزمر: 33]، وقوله تعالى: { { إِذَآ أَذَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } [الشورى: 48].
قوله تعالى: { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }.
قال الضحاكُ: أجر بغير عمل.
وقيل: غير مقطوع أي: لا يمن به عليهم.
قوله تعالى: { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِٱلدِّينِ }. "مَا" استفهامية في محل فع بالابتداء والخبر الفعل بعدها والمخاطب: الإنسان على طريق الالتفات، توبيخاً، وإلزاماً للحُجَّة، والمعنى: فما يجعلك كاذباً بسبب الدين، وإنكاره، وقد خلقك في أحسن تقويمٍ، وأنه يردك إلى أرذلِ العمر، وينقلك من حال إلى حال فما الذي يحملك بعد هذا الدليل إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ [لأن كل مكذب بالحق، فهو كاذب فأي شيء يضطرك إلى أن تكون كاذباً يعني: أنك تكذب إذا كذبت بالجزاء؛ لأن كل مكذّب كاذب بسبب الجزاء]، والباء مثلها في قوله:
{ { عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل: 100].
وقيل: المخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكون المعنى: فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث وهو الدين، بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت، قاله الفرَّاء والأخفش.
قوله تعالى: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ } أي: أتقن الحاكمين صنعاً في كل ما خلق، وإذا ثبتت القدرة، والحكمة بهذه الدلالة صح القولُ بإمكان الحشرِ، ووقوعه، أمّا الإمكان فبالنظر إلى القدرة، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة كما قال تعالى:
{ { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ص: 27].
وقيل: أحكم الحاكمين: قضاء بالحق، وعدلاً بين الخلق، وألف الاستفهام إذا دخلت على النفي في الكلام صار إيجاباً، كقوله: [الوافر]

5252- ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكبَ المَطَايَا.................................

[قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف.
وقيل: هي ثابتة لأنه لا تنافي بينهما].
وكان ابن عباس وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - إذا قرءا: { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَاكِمِينَ }، قالا: بلى، وإنَّا على ذلك من الشاهدين.
قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح، ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم، لأنه تعالى أحكم الحاكمين، فلا يفعل فعل السفهاء.
وأجيب: بالمعارضة بالعلم، والداعي، ثم نقول: السَّفيهُ من قامت السفاهة به، لا من خلق السفاهة، كما أن المتحرك من قامت الحركة به بدلاً لا من خلقها. والله أعلم.