التفاسير

< >
عرض

كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ
٦
أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ
٧
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ
٨
أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ
٩
عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ
١٠
أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ
١١
أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ
١٢
أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ
١٣
أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ
١٤
كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ
١٥
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
١٦
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ
١٧
سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ
١٨
كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب
١٩
-العلق

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ }. إلى آخر السورة.
قيل: إنه نزل في أبي جهل، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في المسجدِ، ويقرأ باسم الربِّ - تبارك وتعالى - وعلى هذا فليست السورة من أول ما نزل، ويجوز أن يكون خمس آياتٍ من أولها أولى ما نزل، ثم نزل البقية في شأن أبي جهل، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة؛ لأن تأليف السور إنما كان بأمر الله تعالى، ألا ترى أنَّ قوله تعالى:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } [البقرة: 281] آخر ما نزل ثم هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل.
و "كلاَّ" بمعنى حقاً.
قال الجرجانيُّ: لأن ليس قبله ولا بعده شيء يكون "كلاَّ" ردًّا له، كما قالوا في
{ { كَلاَّ وَٱلْقَمَرِ } [المدثر: 32] فإنهم قالوا: معناه: أي والقمر؛ لأنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه.
وقال مقاتل: كلاَّ ليعلم الإنسان أن الله تعالى هو الذي خلقه من العلقة، وعلمه بعد الجهل؛ لأنه عند صيرورته غنياً يطغى، ويتكبر ويصير مستغرق القلب في حُبِّ الدنيا، فلا يفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها.
قوله: { أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ }، مفعول له، أي: رؤيته نفسه مُسْتغنياً، وتعدى الفعل هنا إلى ضميريه المتصلين؛ لأن هذا من خواص هذا الكتاب.
قال الزمخشريُّ: "ومعنى الرؤية، ولو كانت بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين، و "اسْتَغْنَى" هو المفعول الثاني".
قال شهاب الدين: والمسألة فيها خلاف، ذهب جماعةٌ إلى أن "رأى" البصرية تعطى حكم العلمية، وجعل من ذلك قول عائشة - رضي الله عنها -: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان؛ وأنشد: [الكامل]

5255- ولقَد أرَانِي للرِّمَاحِ دَرِيئَةً مِنْ عَنْ يَمينِي تَارَةً وأمَامِي

وتقدم تحقيقه. وقرأ قنبل بخلاف عنه: "رأه" دون ألف بعد الهمزة، وهو مقصور من "رآه" في قراءة العامة.
ولا شك أن الحذف جاء قليلاً، كقولهم: "أصاب الناس جهد ولو تر أهل مكة" بحذف لام "ترى"؛ وقول الآخر: [الرجز]

5256- وصَّـانِــيَ العَجَّــاجُ فِيمَــا وصَّنِــي

يريد: فيما وصاني، ولما روي عن مجاهد هذه القراءة عن قنبل، وقال: "قرأت بها عليه" نسبه فيها إلى الغلط، ولا ينبغي ذلك، لأنه إذا ثبت ذلك قراءة، فإن لها وجهاً وإن كان غيره أشهر منه، فلا ينبغي أن يقدم على تغليطه.
فصل في نزول الآية
قال ابن عبَّاسٍ في رواية "أبي صالح": لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون، أتاه أبو جهل، فقال: يا محمد، أتزعم أنه من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال "مكة" ذهباً لعلنا نأخذ منها فنطغى، فندعُ ديننا، ونتبع دينك، قال: فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد خيِّرهم في ذلك، فإن شاءوا فعلنا لهم ما أرادوه، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدةِ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم لا يقبلون ذلك، فكفّ عنهم أسفاً عليهم.
[وقيل: أن رآه استغنى بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله: "أن رآه" كما يقال: إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم].
قوله: { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ }. هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديداً له وتحذيراً من عاقبة الطغيان، والمعنى: أن مرجع من هذا وصفه إلى الله تعالى، فيجازيه.
والرجعى والمرجع والرجوع: مصادر، يقال: رجع إليه رجوعاً ومرجعاً ورُجْعَى، على وزن "فُعْلى".
قوله: { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } تقدم الكلام على { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ }.
وقال الزمخشري هنا: فإن قلت: ما متعلق "أرأيت"؟.
قلت: "الَّذي يَنْهَى" مع الجملة الشرطية، وهما في موضع المفعولين، فإن قلت: فأين جواب الشرط؟.
قلتُ: هو محذوف تقديره: "إنْ كَانَ عَلَى الهُدى، أو أمَرَ بالتَّقْوَى، ألَمْ يَعْلمْ بأنَّ اللهَ يَرَى"، وإنما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني.
فإن قلت: كيف يصح أن يكون "أَلَمْ يَعْلَمْ" جواباً للشرط؟.
قلت: كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني، وإن أحسن إليك زيد هل تحسنُ إليه؟.
فإن قلت: فما أرأيت الثانية، وتوسطها بين مفعول "أرأيت"؟ قلت: هي زائدة مكررة للتأكيد.
قال شهاب الدين: اعلم أن "أرَأيْتَ" لا يكون مفعولها الثاني إلا جملة استفهامية كقوله تعالى:
{ { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ ٱللَّهِ } [الأنعام: 47]، ومثله كثير، وهنا "أرَأيْتَ" ثلاث مرات، وقد صرح بعد الثالثة منها بجملة استفهامية، فيكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على { الَّذي يَنْهَى عَبْداً } الواقع مفعولاً لـ "أرَأيْتَ" الأولى، ومفعول "أرأيت" الأولى الذي هو الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية كالجملة الواقعة بعد "أرأيت" الثالثة، وأما "أرأيت" الثانية، فلم يذكر لها مفعول، لا أول، ولا ثان، حذف الأول لدلالة المفعول من "أرأيت" الثالث عليه، فقد حذف الثاني من الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس طلب كل من "أرأيت" للجملة الاسمية على سبيل التنازع؛ لأنه يستدعي إضماراً. والجملة لا تضمر إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة وأما الكلام على الشرط مع "أرأيت" هذه، فقد تقدم في "الأنعام"، ويجوز الزمخشريُّ وقوع جواب الشرط استفهاماً بنفسه، وهذا لا يجوزُ، بل نصوا على وجوب ذكر الفاءِ في مثله، وإن ورد شيء من ذلك فهو ضرورة.
قال القرطبيُّ: وقيل: كل واحد من "أرَأيْتَ" بدل من الأول، و { ألَمْ يَعْلَمْ بأنَّ اللهَ يَرَى } الخبر.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: "الذي يَنْهَى" أبو جهل، وقوله تعالى "عَبْداً" يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، فإن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً لأطأنَّ على عنقه. ثم إنه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة نكص على عقبيه، فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم، قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً شديداً.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: فأنزل الله هذه الآيات تعجُّباً منه.
وعن الحسن: أنه أمية بن خلف، كان ينهى سلمان عن الصلاة.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: من هذا الناهي عن الصلاة من العقوبة.
قوله: { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَىٰ ٱلْهُدَىٰ أَوْ أَمَرَ بِٱلتَّقْوَىٰ } أي: أرأيت يا أبا جهلٍ إن كان محمد صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة، أليس ناهية عن الصَّلاة والتَّقوى هالكاً؟.
قوله: { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } يعني أبا جهل كذب بكتاب الله، وأعرض عن الإيمان.
وقال الفراءُ: { أرَأيتَ الذي يَنْهَى عبداً إذا صلَّى }، والناهي مكذب متولٍّ عن الذكر، أي: فما أعجب هذا بما يقول، ثم قال: ويله { ألَمْ يَعْلمْ } أبو جهل { بأنَّ الله يَرَى }، أي: يراه ويعلم فعله، فهو تقريع وتوبيخ.
قال ابن الخطيب: هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعجب، وفي وجه هذا التعجب وجوه:
أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قال:
"اللَّهُمَّ أعزَّ الإسلامَ بأبِي جَهلٍ أو بِعُمَرَ" ، فقيل: أبمثل هذا يعزّ الإسلام وهو ينهى عبداً إذا صلى.
الثاني: أنه كان يلقب بأبي الحكمِ. فقيل: كيف يلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة.
الثالث: أنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته، ثم إنه ينهى عن طاعة الربِّ تعالى، وهذا عين الحماقة والتكبُّر، فـ "عبداً" يدل على التعظيم، كأنه قيل: [ينهى أشد الخلق عبودية عن العبادة، وهذا عين الجهل، ولهذا لم يقل:] ينهاك، وأيضاً فإن هذا يدل على أن هذه عادته، ودأبه، فهو أبلغ في الذم أيضاً فهذا عام في كل من نهى عن الصلاة، وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنه رأى أقواماً يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم فقال: أخشى أن أدخل في قوله تعالى: { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } [العلق: 9، 10]، فلم يصرح أيضاً بالنهي عن الصلاة.
وأيضاً فيه: إجلال لمنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهاه رجل لا سيما مثل هذا.
قوله: { كَلاَّ } ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله تعالى، أو كلا لن يصل أبو جهلٍ إلى أن يقتل محمداً صلى الله عليه وسلم ويطأ عنقه.
وقال مقاتل: كلا لا يعلم أن الله يرى، وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بناصيته يوم القيامة، وليسحبنه بها في النَّار، كقوله تعالى:
{ { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِي وَٱلأَقْدَامِ } [الرحمن: 41]، فالآية وإن كانت في أبي جهلٍ، فهي عظةٌ للنَّاس، وتهديد لمن يمنع غيره عن الطاعة.
قوله: { لَنَسْفَعاً }، الوقف على هذه النون بالألف، تشبيهاً لها بالتنوين، ولذلك يحذف بعد الضمة والكسرة وقفاً، وتكتب هنا ألفاً إتباعاً للوقف.
وروي عن أبي عمرو: "لَنَسْفَعَنَّ" بالنون الثقيلة.
والسَّفع: الأخذ والقبض على الشيء بشدة، يقال: سفع بناصية فرسه، قال عمرو بن معديكرب: [الكامل]

5257- قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأيْتهُم ما بَيْنَ مُلْجمِ مُهْرهِ أوْ سَافعِ

وقيل: هو الأخذ، بلغة قريش.
وقال الرَّاغب: السَّفع: الأخذ بسعفة الفرس، أي: بسواد ناصيته، وباعتبار السواد قيل للأثافي: سفع، وبه سُفْعَةُ غضب اعتباراً بما يعلم من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب.
وقيل للصقر: أسفع، لما فيه من لمع السواد، وامرأة سفعاء اللون انتهى.
وفي الحديث:
"فَقَامَت أمْرَأةٌ سَفْعاءُ الخدَّيْنِ" .
وقيل: هو مأخوذ من سفعت النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد.
قال: [الكامل]

5258- أثَافِيَّ سُفْعاً في مُعرَّسِ مِرْجَلٍ ونُؤيٌ كجذْمِ الحَوْضِ أثلمُ خَاشِعُ

قال القرطبيُّ: السفع الضرب، أي: ليلطمن وجهه، وكله متقارب المعنى، أي: يجمع عليه الضرب عند الأخذ، ثم يجر إلى جهنم.
وقرأ ابن مسعود: "لأسفعن"، أي: يقول الله تعالى: يا محمد أنا الذي أتولّى إهانته، لقوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [الأنفال: 62] { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } [الفتح: 4]، والناصية: شعر مقدم الرأس، وقد يعبر بها عن جملة الإنسان، وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته.
قوله: { نَاصِيَةٍ } بدل من "النَّاصية"، بدل نكرة من معرفة.
قال الزمخشريُّ: "وجاز بدلها عن المعرفة، وهي نكرة، لأنها وصفت، فاستقلت بفائدة".
قال شهاب الدِّين: وهذا مذهب الكوفيين، لا يجيزون إبدال نكرة من غيرها إلا بشرط وصفها، وكونها بلفظ الأول، ومذهب البصريين: لا يشترط بشيءٍ؛ وأنشدوا: [الوافر]

5259- فَلاَ وأبِيكَ خَيْرٌ مِنْكَ إنِّي ليُؤذِينِي التَّحَمحُمُ والصَّهِيلُ

وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي: بنصب "ناصِيةٌ كَاذِبَةٌ خَاطِئةٌ" على الشتم.
وقرأ الكسائي في رواية: بالرفع، على إضمار: هي ناصية، ونسب الكذب والخطأ إليها مجازاً. والألف واللام في "الناصية" قيل: عوض من الإضافة، أي: بناصيته.
وقيل: الضمير محذوف، أي: الناصية منه.
فصل في معنى الآية
والمعنى: لنأخذنّ بناصية أبي جهل "كاذبة" في قولها، "خاطئة" في فعلها، والخاطئ معاقب مأخوذ، والمخطئ غير مأخوذ، ووصفت الناصية بأنها خاطئة كوصف الوجوه بالنظر في قوله "إلى ربها ناظرة"، وقيل: إن صاحبها كاذب خاطئ كما يقال: ليل قائم ونهار صائم، أي صائم في النهار وقائم في الليل، وإنما وصف الناصية بالكاذبة، لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وكاذباً على رسوله صلى الله عليه وسلم في أنه ساحر، وكاذب أنه ليس بنبي؛ لأن صاحبها يتمرد على الله تعالى، كما قال تعالى:
{ { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } [الحاقة: 37].
قوله: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ }، إما أن يكون على حذف مضاف، أي: أهل ناديه، أو على التجوُّز في نداء النادي لاشتماله على الناس، كقوله تعالى:
{ { وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ ٱلَّتِي كُنَّا فِيهَا } [يوسف: 82]، والنادي والندي: المجلس المتجدّد للحديث.
قال زهير: [الطويل]

5260- وفِيهِمْ مَقامَاتٌ حِسَانٌ وُجوهُهُمْ وأنْدِيةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ والفِعْلُ

[وقالت أعرابية: هو سيد ناديه وثمال عافيه]
وقال تعالى:
{ { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [العنكبوت: 29].
وقال أبو عبيدة: "ونَادِيَه" أهل مجلسه، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى: فليدع عشيرته، فليستنصر بهم.
قوله: { سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ }.
قال الزمخشري: "والزبانية في كلام العرب: الشرط، الواحد: زبنية، كعفرية من الزَّبن، وهو الدَّفع.
وقيل: زبني، وكأنه نسب إلى الزبن، ثم غير للنسب، كقولهم: أمسيّ، وأصله: زباني، فقيل: "زبانية" على التعويض".
وقال عيسى بن عمر والأخفش: واحدهم زابن.
وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، كعباديد، وشماطيط، وأبابيل، والحاصل: أن المادة تدل على الدفع.
قال: [الطويل]

5261- مَطَاعِيمُ في القُصْوَى مَطَاعِينُ في الوَغَى زَبَانِيَةٌ غُلبٌ عِظامٌ حُلومُهَا

وقال آخر: [الطويل]

5262- ومُسْتعْجِبٍ ممَّا يَرَى مِنْ أنَاتِنَا ولوْ زَبَنَتْهُ الحَرْبُ لَمْ يَتَرَمْرَمِ

[قال عتبة: زبَنَتْنا الحرب، وزبنَّاها، ومنه الزبون لأنه يدفع من بائع إلى آخر.
وقال أبو الليث السمرقنديرحمه الله : ومنه المزابنة في البيع؛ لأنهم يعملون بأرجلهم، كما يعملون بأيديهم].
وقرأ العامة: "سَندْعُ" بنون العظمة، ولم ترسم بالواو، وتقدم نظيره، نحو
{ { يَدْعُ ٱلدَّاعِ } [القمر: 6].
وقرأ ابن أبي عبلة: "سيُدْعَى الزبانيةُ" مبنياً للمفعول ورفع "الزبانية" لقيامها مقام الفاعل.
فصل في المراد بالزبانية
قال ابن عباس: الملائكة الغلاظ الشداد، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ } قال أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك، قال الله تعالى: { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل له: أخشيت منه؟.
قال: لا، ولكن رأيت عنده فارساً، فهددني بالزبانية فما أدري ما الزبانية؛ ومال إليَّ الفارس، فخشيت منه أن يأكلني.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. خرجه الترمذي بمعناه.
قوله: { كَلاَّ } أي: ليس الأمر كما يظنه أبو جهل "لا تُطِعْهُ" فيما دعاك إليه من ترك الصلاة "واسْجُدْ"، أي: صل الله "واقْتَرِبْ" أي: اقترب إلى الله بالطَّاعة والعبادة.
وقيل: المعنى: إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء.
قال صلى الله عليه وسلم:
"أمَّا الرُّكوعُ فعَظَّمُوا فِيْهِ الربَّ تعالى، وأمَّا السُّجُود فاجْتَهدُوا في الدُّعَاءِ، فقمن أنْ يُسْتجابَ لَكُمْ" .
وقال صلى الله عله وسلم: "أقْرَبُ ما يَكُونُ العبدُ مِنْ ربِّه وهُوَ سَاجِدٌ" .
فالسجود في قوله تعالى: { وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة.
وقال ابن العربي: والظاهر أنه سجود الصلاة؛ لقوله تعالى: { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يَنْهَىٰ عَبْداً إِذَا صَلَّىٰ } إلى قوله: { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب }، لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم، وغيره من الأئمة عن أبي هريرة، أنه قال: سجدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في "إذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ" وفي { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ } سجدتين، فكان هذا نصًّا على أن المراد سجود التلاوةِ.
روى الثعلبي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ }، فكأنَّمَا قَرَأ المفصل كُلَّهُ" . والله تعالى أعلم.