التفاسير

< >
عرض

لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ
١
رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً
٢
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ
٣
-البينة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ }، هذه قراءة العامة، وخط المصحف.
وقرأ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "لَمْ يكُن المُشْركُونَ وأهْلُ الكِتابِ منفكين" وهذه قراءة على التفسير.
قال ابن العربي: "وهي جائزة في معرض البيان، لا في معرض التلاوة، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الصحيح "فَطلِّقُوهُنَّ لقُبُلِ عدَّتهِنَّ" وهو تفسيرٌ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف".
وقرئ: "والمُشرِكُون" بالواو نسقاً على "الَّذينَ كَفَرُوا".
قوله: { مُنفَكِّينَ } اسم فاعل من "انفكَ"، وهي هنا التامة، فلذلك لم تحتج إلى خبر.
وزعم بعضهم: أنها هنا ناقصة، وأن الخبر مقدر، تقديره: منفكّين عارفين محمداً صلى الله عليه وسلم.
قال أبو حيان: وحذف خبر "كَانَ" لا يجوز اقتصاراً، ولا اختصاراً.
وجعلوا قوله: [الكامل]

5263ب- ….............................. يَبْغِي جِوَاركَ حَيْثُ لَيْسَ مُجِيرُ

أي: في الدنيا، ضرورة، ووجه من منع من ذلك أنه قال: صار الخبر مطلوباً من جهتين: من جهة كونه مخبراً به، فهو أحد جزئي الإسناد، ومن حيث كونه منصوباً بالفعل، وهذا منتقض بمفعولي ظن، فإن كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان، أو أحدهما اختصاراً، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره.
وقوله: { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ } متعلق بـ "لَمْ يَكُنْ" أو بـ "مُنفكِّينَ".
فصل
قال الواحديُّ: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً، ولم يبين كيفية الإشكال قال ابن الخطيب: ووجه الإشكال أن تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، فانفكوا عنه لأن "حتَّى" لانتهاء الغاية، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قوله تعالى: { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول - عليه الصلاة والسلام - فحينئذ يحصل التناقض، والجواب من وجوه:
أحدها: وهو أحسنها، ما لخصه الزمخشريُّ: أن الأول حكاية ما كانوا يقولونه من أنه صلى الله عليه وسلم الموعود به لا ننفك عما نحن عليه من ديننا.
والثاني: إخبار عن الواقع، يعني أنهم كانوا يعدون الاتِّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول - عليه الصلاة والسلام -، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافاً لما ادعوا.
وثالثها: المعنى: لم يكونوا منفكين عن كفرهم، وإن جاءتهم بينة، قاله القاضي. إلا أن جعل "حتى" بمعنى "أن" بعيد في اللغة.
ورابعها: المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل، حتى أتتهم البينة، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى:
{ { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ } [البقرة: 102]، أي ما تلت أي: ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا، ونظيره { { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89].
وخامسها: أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة، فلما جاءتهم البينة تفرقوا، وتكفي هذه المغايرة.
وسادسها: هي كقوله تعالى:
{ { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ } [البقرة: 213] الآية، أي: كان كل منهم جازماً بمذهبه ودينه، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم شكوا في أديانهم، لأن قوله تعالى { مُنفَكِّينَ } مشعر بهذا؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه، فمعناه: أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد، وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
فصل في المراد بأهل الكتاب هنا
قال ابن عباس: أهل الكتاب الذين كانوا بـ "يثرب"، وهم: قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، والمشركون الذين كانوا بـ "مكة" وما حولها، و "المدينة"، وهم مشركو قريش، وقوله تعالى: { مُنفَكِّينَ } أي: منتهين من كفرهم { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقيل: لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل: منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا، أي ما زلت، وما انفك فلان قائماً، أي: ما زال قائماً.
وأصل الفك للفتح، ومنه: فك الكتاب، وفك الخلخال.
وقيل: "مُنفكِّينَ"، بارحين، أي: لم يكونوا ليبرحوا, ويفارقوا الدنيا, حتى تأتيهم البينة.
وقال ابن كيسان: أي: لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث صلى الله عليه وسلم حسدوه، وجحدوه، وهو قوله تعالى:
{ { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [البقرة: 89]، ولهذا قال تعالى: { { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } [البينة: 4]، وعلى هذا فقوله تعالى: { وَٱلْمُشْرِكِينَ } أي: ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث، فإنهم كانوا يسمونه الأمين، حتى أتتهم البينة على لسانه، وبعث إليهم صلى الله عليه وسلم فحينئذ عادوه.
وقال بعض اللغويين: "مُنفكِّينَ"، أي: هالكين، من قولهم: انفك صلا المرأة عند الولادة، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك، والمعنى: لم يكونوا معذّبين، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.
فصل في المراد بالمشركين
قال قوم: المراد بالمشركين من أهل الكتاب، فمن اليهود من قال: عزير ابن الله ومن النصارى من قال: عيسى هو الله.
ومنهم من قال: هو ابنه.
ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة وكذبوا فيما قالوا عن الله تعالى، وأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، ولا ولد له، ولا مثل ولا ضد له، ولا ند له، ولا شبيه له، ولا صاحبة له، ولا زوجة له، ولا وزير له، ولا حاجب له، ولا بواب له، وهو سبحانه وتعالى كما قال في كتابه المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم:
{ { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [الاخلاص 1-4].
وقيل: المشركون وصف لأهل الكتاب أيضاً، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم، وتركوا التوحيد، فالنصارى مثلثة، وعامة اليهود مشبهة، والكل شرك، وهو كقولك: جاءني العقلاء والظرفاء، وأنت تريد أقواماً بعينهم تصفهم بالأمرين، قال تعالى:
{ { ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ } [التوبة: 112]، وهذا وصف للطائفة الواحدة، فالمعنى على هنا من أهل الكتاب المشركين.
ٌ[وقيل: أهل الكتاب كانوا مؤمنين، ثم كفروا بعد أنبيئاهم، والمشركون ولدوا على الفطرة، ثم كفروا حين بلغوا.
وقيل: الكفر هنا هو الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، أي: لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم، وهم الذين ليس لهم كتاب منفكين.
قال القشيريُّ: وفيه بعد، لأن الظاهر من قوله تعالى: { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ } أنّ هذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فيبعد أن يقال لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى الله عليه وسلم منفكين، حتى يأتيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال: أراد لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا من قبل معظمين له منتهين عن هذا الكفر إلى أن يبعث الله تعالى لهم محمداً صلى الله عليه وسلم ويبين لهم الآيات، فحينئذٍ يؤمن قوم].
وقرأ الأعمش وإبراهيم: "والمُشْرِكُونَ" رفعاً عطفاً على "الَّذِينَ كَفرُوا".
قال القرطبيُّ: "والقراءة الأولى أبين، لأن الرفع يصير فيه الصنفان، كأنهم من غير أهل الكتاب".
وفي حرف أبيّ: "فما كان الذين من أهل الكتاب والمشركون منفكين".
قال ابن الخطيب: فإن قيل: لم قال الذين كفروا، بلفظ الفعل، وذكر المشركين باسم الفاعل؟ فالجوابُ: أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر؛ لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل، وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين، فإنهم ولدوا على عبادةِ الأوثان، وذلك يدل على الثبات على الكفر.
قوله: { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ }.
قيل: البينة، محمد صلى الله عليه وسلم لأنه في نفسه بينة وحُجَّة ولذلك سمَّاه الله - تعالى - سراجاً منيراً. قوله تعالى: { رَسُولٌ مِّنَ ٱللَّهِ }، وهو رفع على البدل من "البَيِّنةُ"، ولأن اللام في "البَيِّنةُ" للتعريف أي: هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، وقد يكون التعريف للتفخيم؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة، وكذا التنكير، وقد جمعهما الله - تعالى- ها هنا - في حق الرسول، أي: هو رسول، وأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظيره: قوله تعالى حين أثنى على نفسه، فقال سبحانه وتعالى:
{ { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } [البروج: 15] ثم قال تعالى: { { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [البروج: 16] فنكر بعد التعريف.
وقال أبو مسلم: المراد من البينة مطلق الرسل، فقوله تعالى: { حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } أي: تأتيهم رسل من ملائكة الله تعالى، تتلو عليهم صحفاً مطهرة، نظيره:
{ { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } [المدثر: 52].
وقال قتادة وابن زيد: "البَيِّنةُ" هي القرآن، كقوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } [طه: 133].
قوله: "رسُولٌ"، العامة: على رفعه بدلاً من "البينة"، إما بدل اشتمال، وإما بدل كل من كل على سبيل المبالغة، جعل الرسول صلى الله عليه وسلم نفس البينة، أو على حذف مضاف، أي: بينة رسول.
وقال الفرَّاء: رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: هي رسول، أو هو رسول من الله لأن البينة قد تذكَّر، فيقال: بَيَّنتي فلان.
وقرأ عبد الله وأبيّ: "رسولاً" على الحال من "البينة".
وقال القرطبي: "بالنصب على القطع".
قوله: "من اللهِ" يجوز تعلُّقه بنفس "رسول" أو بمحذوف على أنه صفة لـ "رسول"، وجوز أبو البقاء ثالثاً، وهو أن يكون حالاً من "صحفاً"، والتقدير: يتلو صحفاً مطهرة منزلة من الله تعالى.
يعني كانت صفة في الأصل للنَّكرة، فلما تقدمت عليها نصبت حالاً.
قوله: "يتلو" يجوز أن يكون صفة لـ "رسول" وأن يكون حالاً من الضمير في الجار قبله، إذا جعله صفة لـ "رسول". و "يتلو": أي: يقرأ، يقال: تلا يتلو تلاوة. و "صُحُفاً" جمع صحيفة، وهي ظرف المكتوب.
"مُطهَّرة"، قال ابن عبَّاسٍ: من الزور، والشك، والنفاق، والضلالة، وقال قتادة: من الباطل.
وقيل: من الكذب والشبهات، والمعنى واحد [أي: يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب بدليل أنه كان يتلو على ظهر قلب لا عن كتاب، ولأنه كان أميًّا لا يقرأ، ولا يكتب، ومطهرة من نعت الصحف كقوله تعالى:
{ { فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } [عبس: 13، 14] فالمطهرة: نعت للصحف في الظاهر، وهو نعت لما في الصحف من القرآن.
وقيل: مطهرة أي: لا يسمُّها إلا المطهرون كما تقدم في سورة "الواقعة".
وقيل: الصحف المطهرة هي التي عند الله - تعالى - في أم الكتاب الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم من الكتب لقوله تعالى:
{ { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج:21-22].
قوله: { فِيهَا كُتُبٌ }. يجوز أن تكون جملة صفة لـ "صُحُفاً"، أو حالاً من ضمير "مُطهَّرة" وأن يكون الوصف أو الحال الجار والمجرور فقط، و "كتب" فاعل به، وهو الأحسن، والمراد بالكتب: الآيات المكتوبة في الصحف، والقيمةُ: المستقيمة المحكمةُ، من قول العرب: قام يقوم إذا استوى وصح.
وقال صاحب "النَّظم": الكتب بمعنى الحكم؛ لقوله تعالى:
{ { لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [المجادلة: 21]، ومنه حديث العسيف: "لأقضينَّ بَينكُمَا بِكتابِ اللهِ" ، ثم قضى بالرَّجْم، وليس ذكر الرجم مسطُوراً في الكتاب.
وقيل: الكتب القيمة: هي القرآن، سمي كتباً، لأنه يشتمل على أنواع من البيان.