التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ
٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ
٧
جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ
٨
-البينة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ } كما مرَّ في أول السورة، وقوله تعالى: { فِي نَارِ } هذا هو الخبر، و { خَالِدِينَ } حال من الضمير المستكن في الخبر.
قوله: { أَوْلَـٰئِكَ هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ }.
وقرأ نافع وابن ذكوان: "البريئة" بالهمز في الحرفين، والباقون: بياء مشددة.
واختلف في ذلك الهمز، فقيل: هو الأصل من برأ الله الخلق، ابتدأه واخترعه، قال تعالى:
{ { مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } [الحديد: 22]، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، وإنما خففت والتزم تخفيفها عند عامة العرب.
وقد تقدم أن العرب التزمت غالباً تخفيف ألفاظ منها: النبي، والجاثية، والذرية.
قال القرطبي: "وتشديد الياء عوض من الهمزة".
وقيل: "البريَّة" دون همز مشتقة من "البرى" وهو التراب، فهي أصل بنفسها، والقراءتان مختلفتا الأصل متّفقتا المعنى. إلا أن عطية ضعف هذا، فقال: "وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ، وهو اشتقاق غير مُرْض" انتهى.
يعني أنه إذا قيل: إنها مشتقة من "البرى" وهو التراب، فمن أين تجيء الهمزة في القراءة الأخرى.
قال شهاب الدين: "هذا غير لازم، لأنهما قراءتان مشتقتان، لكل منهما أصل مستقل، فتلك من "برأ"، أي: خلق، وهذه من "البرى" لأنهم خلقوا منه، والمعني بالقراءتين شيء واحد وهو جميع الخلق، ولا يلتفت إلى من ضعف الهمز من النحاة لثبوته متواتراً".
قال القشيريُّ: "ومن قال: البرية من البرى، وهو التراب، قال: لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة".
وقيل: البرية: من بريت القلم، أي قدرته، فتدخل فيه الملائكة، ولكنه قول ضعيف؛ لأنه يجب فيه تخطئةُ من همز.
وقوله: { هُمْ شَرُّ ٱلْبَرِيَّةِ }، أي: شر الخليقة، فقيل: يحتمل أن يكون على التعميم.
وقال قوم: أي هم شرُّ البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:
{ { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة: 47]، أي: على عالمي زمانكم، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شرّ منهم، مثل: فرعون، وعاقر ناقة صالح، وكذا قوله: { خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } إما على التعميم، أو خير برية عصرهم، وقد استدل بقراءة الهمزة من فضل بني آدم على الملائكة.
وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: المؤمن أكرم على الله - عزَّ وجلَّ - من بعض الملائكة الذين عنده.
وقرأ العامة: { خَيْرُ ٱلْبَرِيَّةِ } مقابلاً لـ "شرّ".
وقرأ عامر بن عبد الواحد: "خِيارُ البريَّةِ" وهو جمع "خير" نحو: جِيَاد، وطِيَاب، في جمع جيد وطيب؛ قاله الزمخشريُّ. قال ابن الخطيب: وقدم الوعيد على الوعد، لأنه كالداء، والوعد: كالغذاء والدَّواء، فإذا بقي البدن استعمل الغذاء، فينتفع به البدن، لأن الإنسان إذا وقع في شدة رجع إلى الله تعالى، فإذا نال الدنيا أعرض.
قوله: { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ }. أي: ثوابهم عند خالقهم ومالكهم { جَنَّاتُ عَدْنٍ }.
قال ابن الخطيب: قال بعض الفقهاء: من قال: لا شيء لي على فلان انتفى الدين، وله أن يدعي الوديعة، وإن قال: لا شيء لي عنده انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولإن قال: لا شيء لي قبلهُ انصرف إليهماً معاً، فقوله تعالى: { عِندَ رَبِّهِمْ } يفيد أنها أعيان مودعة عنده، والعين أشرف من الدين، والضمان إنما يرغب فيه خوف الهلاك، وهو محال في حقه تعالى. وتقدم الكلام على نظيره.
قوله: { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ }، الجنات: البساتين، والعدن: الإقامة، يقال: عدن بالمكان يعدن عدناً وعدوناً، أي: أقام. ومعدن الشيء: مركزه ومستقره، وقيل: "عدن": بطنان الجنة ووسطها.
قوله: { خَالِدِينَ فِيهَآ }، حال عامله محذوف، تقديره: ادخلوها خالدين، أو أعطوها، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المجرور في "جزَاؤهُم" لئلا يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي، على أنَّ بعضهم: أجازه من "هم" واعتذر هنا بأن المصدر غير مقدر بحرف مصدري.
قال أبو البقاء: وهو بعيد، وأما "عِند ربِّهِمْ" فيجوز أن يكون حالاً من "جَزاؤهُمْ"، وأن يكون ظرفاً له، و "أبَداً" ظرف مكان منصُوب بـ "خالدِيْنَ". أي لا يظعنون ولا يموتون.
قوله: { رِّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ }، يجوز أن يكون دعاء مستأنفاً، وأن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون حالاً ثانياً بإضمار "قَد" عند من يلزم ذلك.
قال ابن عباس: "رضي اللهُ عنهُمْ ورَضُوا عنه" أي: رضوا بثواب الله تعالى.
قوله: { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي: ذلك المذكور من استقرار الجنة مع الخلود.
أي: خاف ربه، فتناهى عن المعاصي.
روى أنس - رضي الله عنه -
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيِّ بن كعب: إن الله تَعالَى أمَرنِي أنْ أقْرَأ عليْكَ: { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }، قال: وسمَّاني لك؟ قال - عليه الصَّلاة والسلام -: نَعم فبكى" . خرجه البخاري ومسلم.
قال القرطبيُّ: "من الفقه قراءة العالم على المتعلم".
قال بعضهم: إنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبيٍّ، ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعليم والقراءة على من دونه من المنزلة.
وقيل: إن أبياً كان أسرع آخذاً لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلم غيره، فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه صلى الله عليه وسلم، وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين إذ أمر صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه. والله أعلم.