التفاسير

< >
عرض

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ
٦
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
٧
وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ
٨
-الزلزلة

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { يَوْمَئِذٍ } إما بدل من "يَومئذٍ" قبله، وإما منصوب بـ "يَصْدرُ"، وإما منصوب بـ "اذكر" مقدراً. وقوله تعالى: { أَشْتَاتاً }: حال من الناس، وهو جمع "شت" أي: متفرقين في الأمن والخوف والبياض والسواد، والصدر ضد الورود عن موضع الحساب، فريق إلى جهة اليمين إلى الجنة، وفريق إلى جهة الشَّمال إلى النار، لقوله تعالى: { { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم: 14] { { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم: 43].
وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: "أشْتَاتاً" متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة.
وقيل: هذا الصدر إنما هو عند النشور، يصدرون أشتاتاً، من القبور إلى موقف الحساب ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم، فإنهم وردوا القبور فدفنوا فيها ثم صدروا عنها، وقوله تعالى: { أَشْتَاتاً }، أي: يبعثون من أقطار الأرض، فعلى هذا قوله تعالى: { لِّيُرَوْاْ } متعلق بـ "يصدرُ"، وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير أي: تحدث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها، ليروا أعمالهم، واعترض قوله: { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ ٱلنَّاسُ أَشْتَاتاً } متفرقين عن موقف الحساب، وعلى هذا تتعلق بـ "أوحى"، وقرأ العامة: ببنائه للمفعول، وهو من رؤية البصر، فتعدى بالهمزة إلى ثان، وهو أعمالهم، والتقدير: ليريهم الله أعمالهم.
وقرأ الحسن والأعرج: وقتادة، وحماد بن سلمة، ونصر بن عاصم، وطلحة، ويروى عن نافع: بفتحها.
قال الزمخشري: وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنياً للفاعل.
قوله: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }.
قال ابن عباس - رضي الله عنه -: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيراً يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة.
وفي بعض الحديث:
"أن الذرة لا زنةَ لهَا" ، وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة، ولا كبيرة، وهو مثل قوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: 40] وقد تقدم أن الذر لا وزن له.
وذكر بعض أهل اللغةِ: أن الذَّرَّ: أن يضرب الرَّجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الذَّر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض، ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة.
وقيل: الذر نملة صغيرة، وأصغر ما تكون إذا مضى عليها حول.
قال امرؤ القيس: [الطويل]

5266- مِنَ القَاصِراتِ الطَّرفِ لوْ دَبَّ مُحوِلٌ مِنَ الذَّرَّ فوْقَ الإتْبِ منْهَا لأثَّرَا

قال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله ووطنه، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر،ودليله ما رواه أنس - رضي الله عنه - "أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم [وأبو بكر يأكل فأمسك، وقال: يا رسول الله]، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال النبي: يا أبا بكر، مَا رأيْتَ في الدُّنيا مِمَا تكرَهُ فَهُوَ مَثَاقيلُ ذر الشر، ويدخر لكم مثاقِيلُ ذرِّ الخَيْرِ، حتَّى تُعطوهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" .
قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: { { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [الشورى: 30].
قال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل
{ { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ } [الإنسان: 8]، كان أحدهم يأتيه السائلُ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذَّنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النَّار على الكبائر، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، وتحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشقِّ تَمرةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَبِكَلمَةٍ طيِّبةٍ" .
فصل في قراءة "يره"
قوله: { يَرَهُ }، جواب الشرط في الموضعين.
وقرأ هشام: بسكون هاء "يَرَهُ" وصلاً في الحرفين، وباقي السبعة: بضمها موصولة بواو وصلاً، وساكنة وقفاً، كسائر "ها" الكناية.
ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر: سكونها.
وعن أبي عمرو: بضمها مشبعتين، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية انتهى.
وكان ذلك لأجل الوقف على آخر السورة غالباً، أما لو وصلوا آخرها بأول "العَادِيَات" كان الحكم الإشباع، وهذا مقتضى أصولهم، وهو المنقول.
وقرأ العامة: "يَرَهُ" مبنياً للفاعل فيهما.
وقرأ ابن عبَّاسٍ والحسن ابنا علي بن أبي طالب، وزيد بن علي وابو حيوة وعاصم والكسائي في رواية الجحدريِّ والسلمي وعيسى بن عمر: بضم الياء، أي: يريه اللهُ إياه.
قال القرطبيُّ: والأولى الاختيار، لقوله تعالى:
{ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [آل عمران: 30].
وقرأ عكرمة: "يَرَاه" بالألف، إما على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة، وإما على توهم أن "من" موصولة. وتقدم هذا في أواخر "يوسف". ومعنى "يره" أي: يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم.
وحكى الزمخشري: إن أعرابياً أخر: "خَيْراً يرهُ"، فقيل له: قدمت وأخرت؛ فقال: [الطويل]

5267- خُذَا جَنْبَ هَرْشَى أو قَفَاهَا فإنَّهُ كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لهُنَّ طَريقُ

انتهى.
يريد: أن التقديم والتأخير سواء، وهذا لا يجوز - ألبتة - فإنه خطأ، فلا يعتمد به قراءة. وفي نصب "خيراً، وشراً"، وجهان:
أظهرهما: أنهما تمييز لأنه مقدار.
والثاني: أنهما بدلان من مثقال.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية، القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال كعبُ الأحبار - رضي الله عنه -: لقد أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم آيتين، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }. [وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة].
روى مالك في "الموطأ": أن مسكيناً استطعم عائشة - رضي الله عنها - وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة وأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت عائشة: أتعجب، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة.
روى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ قَرَأ { إِذَا زُلْزِلَتِ } عدَلتْ لهُ نِصفَ القُرآنِ، ومَنْ قَرَأ: { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } عدلتْ لهُ ثُلُثَ القُرآنِ" .
وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأ { إِذَا زُلْزِلَتِ } أربعَ مرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ قَرَأ القُرآنَ كُلَّهُ" . والله أعلم.