التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي ٱلأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٥٤
أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٥٥
هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٥٦
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٥٧
-يونس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبرهم بحقيقته، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم أيضاً عند معياينته بالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك المأمور به وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال: { ولو أن لكل نفس ظلمت } أي عند المعاينة { ما في الأرض } أي كلها من خزائنها ونفائسها { لافتدت به } أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك، ولو كان من قبل منهم، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا { وأسروا الندامة } أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام { لما رأوا العذاب } لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر، لأنهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع؛ والاستنباء: طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم؛ والنبأ: خبر عن يقين في أمر كبير؛ والحق: عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه، وكل ما بنى على هذا العقد فهو حق لأجله، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم، والقوة فيما طريقة غالب الأمر، وذلك فيما يحتمل أمرين أحدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص؛ والافتداء: إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه، فداه فدية وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادى منه تفادياً؛ والإسرار: إخفاء الشيء في النفس؛ والندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها.
ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم، وختمت بقوه: { وقضي } أي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله؛ ولما استغرق القضاء جميع وقائعهم. دل بنزع الجار فقال: { بينهم } أي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين { بالقسط } أي العدل؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال: { وهم } أي والحال أنهم { لا يظلمون* } أي لا يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما.
ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام: { ألا إن لله } أي الملك الأعظم وحده { ما في السماوات } بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال: { والأرض } أي من جوهر وعرض صامت وناطق، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل: لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه، ولو قدرت ما قبل منها،وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير: لو أن لها ذلك لافتدت به، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد. صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم: { ألا إن وعد الله } أي الذي له الكمال كله { حق } لأنه تام القدرة والغنى، فلا حامل له على الإخلاف { ولكن أكثرهم } أي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول { لا يعلمون* } أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و { ألا } مركبة من همزة الاستفهام و "لا" وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف "لو" و "إلا" للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر "إن"أما" قد تكون بمعنى "حقاً" في قولهم: أما إنه منطلق، وهي للحال فجاز في "أن" بعدها الوجهان - ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعه أولها سقف مزين بالكواكب. وهي من سما بمعنى علا.
ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه، شامل العلم لقضائه بالعدل، صادق الوعد لأنه لا حامل له على غيره، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله: { هو } أي وحده { يحيي } أي كما أنتم به مقرون { ويميت } كما أنتم له مشاهدون { وإليه } أي لا إلى غيره { ترجعون* } لأنه وعد بذلك في قوله:
{ إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً } [ يونس: 4] وفي قوله: { فإلينا مرجعهم } [يونس: 46] وفي قوله { { إي وربي إنه لحق } [يونس: 53] وغير ذلك ولا مانع له منه؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت، وهو يحل سائر أجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل، والموت معنى يضاد الحياة على البنية الحيوانية، وليس كذلك الجمادية.
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله: أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال: { يا أيها الناس } أي الذين قالوا: إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأمراض. وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى: { قد جاءتكم موعظة } أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله: { من ربكم } أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال: { وشفاء } أي عظيم جداً { لما في الصدور } من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه:
"إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له" الحديث. وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى: { وهدى } إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى: { ورحمة } أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال: { للمؤمنين* } الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال: فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء، والموعظة: إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء: إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل؛ والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى: بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة: نعمة على المحتاج.