التفاسير

< >
عرض

وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً
١
فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً
٢
فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً
٣
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً
٤
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً
٥
إِنَّ ٱلإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
٦
وَإِنَّهُ عَلَىٰ ذَلِكَ لَشَهِيدٌ
٧
وَإِنَّهُ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ
٨
أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي ٱلْقُبُورِ
٩
وَحُصِّلَ مَا فِي ٱلصُّدُورِ
١٠
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ
١١
-العاديات

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفتع، موبخاً من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال، معنفاً من أثر دنياه على أخراه، مقسماً بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر، فمن غلب عليه الروح شكر، ومن غلب عليه الطبع - وهم الأكثر - كفر فقال: { والعاديات } أي الدواب التي من شأنها أن تجري بغاية السرعة، وهي الخيل التي ظهورها عز وبطونها كنز، وهي لرجل وزر ولرجل أجر، فمن فاخر بها ونادى بها أهل الإسلام وأبطره عزها حتى قطع الطريق وأخاف الرفيق كانت له شراً، ومن جعلها في سبيل الله كانت له أجراً، ومن حمل عليها ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها وكانت له ستراً، وإنما أقسم بها ليتأمل ما فيها من الأسرار الكبار التي باينت به أمثالها من الدواب كالثور مثلاً والحمار ليعلم أن الذي خصها بذلك فاعل مختار واحد قهار، فالقسم في الحقيقة به سبحانه.
ولما كانت دالة على الضابحات بالالتزام، قال ناصباً به أو بـ"تضبح" مقدراً: { ضبحاً * } والضبح صوت جهير من أفواهها عند العدو الشديد، ليس بصهيل ولا حمحمة ولا رغاء وهو النفس، وليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وأصله للثعلب واستيعر للخيل، وحكاه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أح أح، أو الضبح عدو دون التقريب.
ولما ذكر عدوها، أتبعه ما ينشأ عنه، فقال عاطفاً بأداة التعقيب لأن العدو بحيث يتسبب عنه ويتعقبه الإيراء: { فالموريات } أي المخرجات للنار بما يصطك من نعلها بالأحجار، لا سيما عند سلوك الأوعار.
ولما كان الإيراء أثر القدح قال: { قدحاً * } أي تقدح ضرباً بعنف كضرب الزند ليوري النار، ونسب الإيراء إليها لإيجادها صورته وإن لم يكن لها قصد إليه.
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنه، ذكر نتيجته وغايته فقال: { فالمغيرات } أي بإغارة أهلها عليها على العدو والإغارة والركض الشديد لإرادة القتل والنهب. ولما كانت الإغارة الكائن عنها الثبور والويل أروع ما تكون في أعقاب الليل قال: { صبحاً * } أي ذات دخول في الصباح.
ولما كان الأعداء حال الإغارة يكون مختلفاً تارة يميناً وتارة شمالاً وتارة أماماً وتارة وراء بحسب الكر والفر في المصاولة والمحاولة تارة أثر الهارب، وأخرى في مصاولة المقبل المحارب، فينشأ عنها الغبار الكثير لإثارة الهواء له واصطدام بعضه ببعض لتعاكسه بقوة الدفع من قوائمها وما تحركه منه، وكان المقسم به منظوراً فيه إلى ذاته ونتيجة القسم منظوراً فيها إلى الفعل بادىء بدء مع قطع النظر بالأصالة عن الذات، عطف على اسم الفاعل بعد حله إلى أن وصلتها فقال: { فأثرن به } أي بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدة العدو { نقعاً * } أي غباراً مع الاعناق والصياح والزجر بالعنق حتى صار ذلك الغبار منحبكاً ومنعقداً عليها.
ولما كان المغير يتوسط الجمع عند اختلال حالهم فيفرق شملهم لأنهم متى افترقوا حصل فيهم الخلل، ومتى اختلفوا تخللهم العدو ففرق شملهم قال: { فوسطن به } أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع { جمعاً } أي وهو المقصود بالإغارة، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها.
ولما أقسم بالخيل التي هي أشرف الحيوان كما أن الإنسان المقسم لأجله أشرف ما اتصف منه بالبيان، وتجري به أفكاره كخيل الرهان، وتقدح المعاني تارة مقترنة بأشرف اللمعان، وأخرى بأخس ما يقع به الاقتران، من الزور والبهتان، والإلحاد والطغيان، وتغير منه ثواقب الأذهان، تارة على شبه الخصوم بالبرهان، وأخرى بما يغير به من الشبه الملتبسة في وجوه المعاني الحسان، وينثر تارة المعاني الصحيحة على أهل الطغيان، من ذوي البدع والكفران، وأخرى الفاسدة على حزب الملك الديان، وتتوسط تارة جمع أولي الطغيان، وأخرى جمع أولي الإيمان، وكانت الإغارة في الغالب لأجل قهر المغار عليهم على أموالهم عدواناً إن كان ذلك في غير الجهاد، وإن كانت في الجهاد فقل من يخلص في ذلك الحال، فيكون عمله ليس إلا لله كما أشار إليه الحديث القدسي:
"إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه" قال مجيباً للقسم بذكر المقسم عليه حاكماً على النوع باعتبار عد المخلص لقلته عدماً، مؤكداً لما لهم من تكذيب ذلك فإن كل أحد يتبرأ من مثل هذا الحال: { إن الإنسان } أي هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه { لربه } أي المحسن إليه بإبداعه ثم إبقائه وتدبيره وتربيته { لكنود * } أي كفور نكد لسوء المعاملة حيث يقدم بما أحسن به الله إليه من الصافنات الجياد وبما آتاه من قوة الجنان والأركان على ما نهاه عنه، ومصدره الكنود بالضم وهو كفران النعمة، فالمراد هنا - بالتعبير عنه بهذه الصيغة التي هي للمبالغة - من يزدري القليل ولا يشكر الكثير، وينسى كثير النعمة بقليل المحنة، ويلوم ربه في أيسر نقمة، وقال الفضيل بن عياض: هو من أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور ضده.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو فقال: { إن الإنسان لربه لكنود } أي لكفور، يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازي ولا يحاسب على قليل ذلك وكثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكأنه ما سمع بقوله تعالى: { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } { وإنه لحب الخير } أي المال { لشديد } لبخيل، { وإنه على ذلك لشهيد } فإن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله { إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور } أي ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } لا يخفى عليه شيء من أمرهم { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } - انتهى.
ولما كان إقدام الإنسان على الظلم عجباً، فإذا كان يشهد على نفسه بالظلم كان أعجب، قال مؤكداً لما لأكثر الخلق قبل البعث والمحاققة من إنكار كفرانه: { وإنه } أي الإنسان { على ذلك } أي الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه { لشهيد * } لأنه مقر إذا حوقق بأن جميع ما هو فيه من إحسان ربه وبأن ربه نهاه عن المخالفة، أو أنه لا أمر عنده منه بما فعل، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتحرك بحركة يمكن أن يكرهها الملك الذي هو في خدمته ولا شيء له إلا منه بغير إذنه، وأنه إن تحرك بغير ذلك كان كافراً لإحسانه مستحقاً لعقابه، لا يقدر على إنكار شيء منه.
ولما كان من العجائب أن يكفر أحد إحسان المنعم، وهو شاهد على نفسه، ذكر الحامل له على ذلك حتى هان عليه فقال: { وإنه } أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم { لحب } أي لأجل حب { الخير } أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيراً { لشديد * } أي بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأن منفعته في الدنيا وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه وهو معرض عن الدين حيث كانت منفعته آجلة غائبة مع علمه بأن المعرّف بما يرضى من خدمة ربه الحاث عليها الداعي إليها فهو لحب عبادة الله ضعيف متقاعس، وكان حبه الخير يقتضي عنه الشكر الذي يتقاضى الزيادة، ولا يتخيل أن شديداً عامل في الحب لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها، وإنما ذلك المتقدم دليل على المعمول المحذوف.
ولما كان المال فانياً لا ينبغي لعاقل أن يعلق أمله به فضلاً عن أن يؤثرة على الباقي، نبهه على ذلك بتهديد بليغ، فقال مسبباً عن ذلك معجباً، موقفاً له على ما يؤول إليه أمره: { أفلا يعلم } أي هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه.
ولما كان الحب أمراً قلبياً، لا يطلع عليه إلا عالم الغيب، وكان البعث من عالم الغيب، وكان أمراً لا بد منه، وكان المخوف مطلق كونه، لم يحتج إلى تعيين الفاعل، فبنى للمفعول قوله مهدداً مؤذناً بأنه شديد القدرة على إثارة الخفايا، معلقاً بما يقدره ما يؤول إليه أمره من أن الله يحاسبه ويجازيه على أعماله، وأنه لا ينفعه مال ولا غيره، ولا ينجيه إلا ما كان من أعماله موافقاً لأمر ربه مبنياً على أساس الإيمان واقعاً بالإخلاص: { إذا بعثر } أي أثير بغاية السهولة وأخرج وفرق ونظر وفتش بغاية السهولة. ولما كان الميت قبل البعث جماداً، عبر عنه بأداة ما لا يعقل فقال: { ما في القبور * } أي أخرج ما فيها من الموتى الذين تنكر العرب بعثهم فنشروا للحساب، أو من عظامهم ولحومهم وأعصابهم وجلودهم وجميع أجسامهم، وقلب بعضه على بعض حتى أعيد كل شيء منه على ما كان عليه، ثم أعيدت إليه الروح، فكان كل أحد على ما مات عليه.
ولما كان المخوف إنما هو ما يتأثر عن البعث من الجزاء على الأعمال الفاسدة قال: { وحصل } أي أخرج وميز وجمع فعرف أنه معلوم كله بغاية السهولة كما أشار البناء للمفعول { ما في الصدور * } أي من خير أو شر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال، وهذا يدل على أن النيات يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها.
ولما كان علم ما في الصدور أمراً باهراً للعقل، قال جامعاً نظراً إلى المعنى لما عبر عنه بالإفراد بالنظر إلى اللفظ، لأن العلم بالكل يلازمه العلم بالبعض بخلاف العكس مؤكداً إشارة إلى أنه مما لا يكاد يصدق، معللاً للجملة المحذوفة الدالة على الحساب: { إن ربهم } أي المحسن إليهم بخلقهم وزرقهم وتربيتهم وجعلهم أقوياء سويين { بهم } قدم هذا الجار والمجرور لا للاختصاص، بل للاشارة إلى نهاية الخبر. ولما كانت الخبرة للإحاطة بالشيء ظاهراً وباطناً، وكان يلزم من الخبرة بالشيء بعد كونه بمدد طوال الخبرة به حال كونه من باب الأولى قال: { يومئذ } أي إذ كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة { لخبير * } أي محيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم، فكيف بظواهرها جواهر وأعراضاً، أقوالاً وأفعالاً، خفية كانت أو ظاهرة، سراً كانت أو علانية، خيراً كانت أو شراً، ومن المعلوم أن فيها الظلم وغيره، ومنهم المحسن وغيره، فلأجل علمه سبحانه بذلك غاية العلم يحاسبهم لئلا يقع ما ينافي الحكمة وهو أن تستوي الحسنة والسيئة، فالقصد بالقيد وتقديم الظرف الإبلاغ في التعريف بأنه سبحانه وتعالى محيط العلم بذلك كما إذا قيل لك: تعرف فلاناً؟ فقلت: ولا أعرف إلا هو، فإن قصدك بذلك أن معرفتك به في غاية الإتقان، لا نفي معرفة غيره، وفيه إشعار بأن كل أحد يعرف غاية المعرفة في ذلك اليوم أنه سبحانه وتعالى عالم بأحواله لا ذهول له عن شيء من ذلك كما يقع في هذه الدار من أن الإنسان يعمل أشياء كثيرة وهو غافل عن أن ربه سبحانه مطلع عليه فيها، ولو نبه لعلم، فلإحاطته سبحانه وتعالى بجميع أحوالهم كان عالماً بأن الإنسان لربه لكنود، وقد رجع آخرها إلى أولها، وتكفل مفصلها بشرح مجملها - والله الهادي للصواب.