التفاسير

< >
عرض

إِلَى ٱللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٥
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٦
-هود

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما خوف المنذرون باليوم الكبير كانوا كأنهم قالوا: ما هذا اليوم؟ فكان الجواب: يوم يرجعون إليه، ولما كانوا ربما حملوا الرجوع على مجرد الموت والصيرورة تراباً، نبههم على أنه بغير المعنى الذي يتوهمه بل بمعنى إعادتهم كما كانوا فقال: { إلى الله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً وحده { مرجعكم } أي رجوعكم ووقته ومكانه لأجل الحساب لا إلى التراب و لا غيره، وهو بكل شيء عليم، ومنه بدؤكم لأخذ الزاد للمعاد، وجعل فاصلة الآية حكماً على المراد فقال: { وهو } أي وحده { على كل شيء } أي ممكن { قدير* } أي بالغ القدرة لأنهم يقرون بقدرته على أشياء هي أعظم من الإعادة، فهو قادر على الإعادة كما قدر على البداءة، فالآية من الاحتباك: ذكر المرجع أولاً دليلاً على المبدأ ثانياً، وتمام القدرة ثانياً دليلاً على تمام العلم أولاً لأنهما متلازمان.
ولما تقدم من التخويف والإطماع ما هو مظنة لإقبالهم ورهبهم على التولي بخصوصه، فكان موضع أن يقال: هل أقبلوا؟ فقيل: لا قال مبيناً أن التولي باطناً كالتوالي ظاهراً لأن الباطن هو العمدة، مؤكداً لأنه امر لا يكاد أن يصدق، والتأكيد أقعد في تبكيتهم: { ألا إنهم } أي الكفار المعاندين { يثنون صدورهم } أي يطوونها وينحرفون عن الحق على غل من غيرِ إقبال لأن من أقبل على الشيء عليه بصدره { ليستخفوا منه } أي يريدون أن يوجدوا إخفاء سرهم على غاية ما يكون من أمره. فإن كان مرادهم بالثني الاستتار من الله تعالى فالأمر في عود الضمير إليه سبحانه واضح، وإن كان من النبي صلى الله عليه وسلم فالاستخفاء منه استخفاء ممن أرسله، ثم أعلم أن ذلك غير مغن عنهم لأنه يعلم سرهم وعلنهم في أخفى أحوالهم عندهم، وهو حين استغشاهم ثيابهم، فيغطون الوجوه التي تستقر عن بعض ما في القلوب للمتوسمين فقال: { ألا حين يستغشون ثيابهم } أي يوجدون غشيانها أي تغطيتها لرؤوسهم، لاستخفاء كراهية لسماع كلام الله وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم { يعلم ما يسرون } أي يوقعون إسراره في أيّ وقت كان ومن أيّ نوع كان من غير بطء لتدبر أو تأمل، ولما لم يكن بين علم السر والعلن ملازمة لاختصاص العلن بما يكون لغيبة أو اختلاف بأصوات ولفظ أو اختلاف لغة ونحو ذلك قال تصريحاً: { وما يعلنون } أي يوقعون إعلانه لا تفاوت في علمه بين إسرار وإعلان، فلا وجه لاستخفائهم نفاقاً، فإن سوق نفاقهم غير نافق عنده سبحانه. ثم علله بما هو أدق من ذلك كله مع شموله للنوعين فقال: { إنه عليم } أي بالغ العلم جداً { بذات الصدور* } أي بضمائر قلوبهم التي في دواخل صدورهم التي يثنونها من قبل أن يقع لهم إضمارها، بل من قبل أن يخلقهم؛ وأصل الثني العطف، ومنه الاثنان - لعطف أحدهما على الآخر، والثناء - لعطف المناقب في المدح. ولهذا لما قال العبد في الفاتحة { الرحمن الرحيم } بعد الحمد قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي - كما في حديث
"قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين" و الاستثناء - لعطف الثاني على الأول بالاستخراج منه؛ والاستخفاء: طلب خفاء الشيء: ثم أتبع ذلك بما يدل على شمول العلم والقدرة معاً فقال: { وما } وأغرق في العموم بقوله: { من دآبة } ودل على أن الانتفاع بالأموال مخصوص بأهل العالم السفلي بقوله: { في الأرض } أي صغرت أو كبرت { إلا على الله } أي الملك الأعلى الذي، له الإحاطة وحده لا على غيره { رزقها } أي قوتها وما تنتفع وتعيش به بمقتضى ما أوجبه على نفسه، تحقيقاً لوصوله وحملاً على التوكل فيه، لأن الإفصال على كل نفس بما لا تعيش إلا به ولا يلائمها إلا هو مدة حياتها أدق مما مضى في العلم مع تضمنه لتمام القدرة، والآية مع ذلك ناظرة إلى ترغيب آية { وأن استغفروا ربكم } فالمراد: أخلصوا العبادة له ولا تفتروا عن عبادته للاشتغال بالرزق فإنه ضمنه لكم وهو عالم بكل نفس فلا تخشوا من أنه ينسى أحداً، وقال: { وفي الأرض } ليعم ما يمشي على وجهها وما في أطباقها من الديدان ونحوها مما لا يعلمه إلا هو، لقد شاهدت داخل حصاة من شاطىء بحر قبرس شديدة الصلابة كأنها العقيق الأبيض دودة عندها ما تأكل، وأخبرني الفاضل عز الدين محمد بن أحمد التكروري الكتبي أنه شاهد غير مرة في دواخل حجارة تقطع من جبل مصر الدود عنده ما يأكل من الحشيش الأخضر وما يشرب من الماء؛ ونبه بقوله: { ويعلم مستقرها } أي مكانها الذي تستقر فيه { ومستودعها } أي موضعها الذي تودع فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة او بعده من قبر أو فلاة أو غير ذلك على ما يحيط به علمه من تفاصيل السكنات والحركات ما كان منها وما يكون من كل ذلك مما يحير الفكر ويدهش الألباب، ثم جعل فاصلة الآية ما هو في غاية العظمة عند الحق وهو { كل } أي من ذلك { في كتاب مبين* } فإنه ليس كل ما يعلمه العبد يقدر على كتابته ولا كل ما يكتبه يكون مبيناً بحيث إنه كلما أراد الكشف منه وجد ما يريده، وإذا وجده كان مفهماً له؛ والدابة: الحي الذي من شأنه الدبيب؛ والمستقر: الموضع الذي يقر فيه الشيء، وهو قراره ومكانه الذي يأوي إليه؛ والمستودع: المعنى المجعول في قراره كالولد الذي يكون في البطن والنطفة التي في الظهر، وقد جعل سبحانه في كتابه ما ذكر حكماً منها ما للملائكة فيه من العبرة عند المقابلة بما يكون من الأمور المكتوبة قبل وجودها.