التفاسير

< >
عرض

فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
٥٧
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٥٨
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما استوفى تشييده أمره وهدم قولهم، أخذ يحذرهم فقال مبيناً أن العدول عما جاء به لا يكون إلا بمعالجة الطبع السليم: { فإن تولوا } ولو أدنى تولية - بما يشير إليه حذف التاء، فعليكم اللوم دوني، لأني فعلت ما عليّ { فقد } أي بسبب أني قد { أبلغتكم ما } أي كل شيء { أرسلت } أي تقدم إرسالي من عند من لا مرسل في الحقيقة غيره { به إليكم } كاملاً لم أدع منه شيئاً رجاء لإقبالكم ولا خوفاً من إعراضكم، فأبيتم إلا التكذيب لي والاستكبار عما جئت به، فالذي أرسلني ينتقم منكم فيهلككم { ويستخلف ربي } أي يوجد المحسن إليّ بإقامتي فيما يرضيه { قوماً غيركم } يخلفونكم في دياركم وأموالكم، فتكونون أعداءه، ويكون المستخلفون متعرضين لأن يكونوا أولياء مع كونهم ذوي بأس وقوة فيختص الضرر بكم { ولا تضرونه } أي الله بإعراضكم { شيئاً } ثم علل وعيده لهم بقوله مؤكداً لأن العاصي فاعل بعصيانه فعل من يظن أن الله غافل عنه: { إن ربي } أي المحسن إليّ المدبر لمصالحي.
ولما كان الأهم في هذا السياق بيان استعلائه وقدرته، قدم قوله: { على كل شيء } صغيراً أو كبيراً جليل أو حقير { حفيظ* } أي عالم بكل شيء وقادر على كل شيء وبالغ الحفظ له، فيعلم ما يعمل محفوظه فيجازيه بما يستحق من نعمه ونقمه، فهو تعليل لاستخلاف غيرهم وتنزهه عن لحوق ضرر، لأن الحفظ: الحراسة، ويلزمها العلم والقدرة، فمن القدرة حافظ العين، أي لا يغلبه نوم، والحفيظة - للحمية والغضب، ومنهما معاً المحافظة - للمواظبة على الشيء؛ والتوالي عن الشيء: الذهاب إلى غير جهته إعراضاً عنه؛ والإبلاغ: إلحاق الشيء نهايته؛ والاستخلاف: جعل الثاني بدلاً من الأول يقوم مقامه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب له.
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا { ولما جاء أمرنا } أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد { نجينا } أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة { هوداً والذين آمنوا } كائنين { معه } في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال: إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف.
ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته، فإن طاعته نعمة منه عليه، أشار إلى ذلك بقوله: { برحمة منا } تحقيقاً لتوكل عبدناً؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكرراً ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة: { ونجيناهم } أي بما لنا من العظمة، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله: { من عذاب غليظ* } أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله { ومن خزي يومئذ } كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح؛ والنجاة: السلامة من الهلاك؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه.
ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب، قال تعالى عاطفاً على قوله { تلك من أنباء الغيب }: { وتلك عاد } أي قصة القوم البعداء البغضاء، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئاً من علمها ولا حرفاً واحداً ولا سمع بعاد ولا هود، وتلخيص قصتهم أنهم { جحدوا } أي كذبوا عناداً واستهانة { بآيات ربهم } المحسن إليهم { وعصوا رسله } فإن من عصى واحداً منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة { واتبعوا } أي بغاية جهدهم { أمر كل جبار } أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه { عنيد* } أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم { وأُتبعوا } جميعاً بعد إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع { في هذه الدنيا } حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود { لعنة } أي طرداً وبعداً وإهلاكاً { ويوم القيامة } أي كذلك بل أشد، فكأنه قيل: أفما لمصيبتهم من تلاف؟ فقيل: لا، { ألا } مفتتحاً للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عاداً هذه لكونها أغناهم بأن قالوا: إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد، المجاهرون بعظيم الإلحاد، المستخفون برب العباد، فلذلك قال تعالى مبيناً لحالهم بياناً لا خفاء معه: { إن عاداً كفروا } ولم يقصر الفعل، بل عداه إعظاماً لطغيانهم فقال: { ربهم } أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلاً خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه، فكان كفرهم أغلظ الكفر، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئاً مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة، ومن كفر من أحسن إليه بعد بعداً لا قرب معه.
ولما كان الأمر عظيماً والخطب جليلاً، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال: { ألا بعداً لعاد } هو من بعد - بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك، وبينهم بقوله: { قوم هود } تحقيقاً لهم لأنهم عادان: الأولى والآخرة، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك؛ والجحد: الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب؛ واللعنة: الدعاء بالإبعاد، وأصلها الإبعاد من الخير؛ والإتباع: جعل الثاني على أثر الأول، والإبلاغ أخص منه، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة.