التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ
٩٦
إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ
٩٧
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ وَبِئْسَ ٱلْوِرْدُ ٱلْمَوْرُودُ
٩٨
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ بِئْسَ ٱلرِّفْدُ ٱلْمَرْفُودُ
٩٩
-هود

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان شعيب ختن موسى عليهما السلام، كان ذكر قصته هنا متوقعاً مع ما حرك إلى توقعها من ذكر كتابه أول السورة وما في عصا موسى من مناسبة ناقة من ختم بالتشبيه بحالهم، فذكرها بعدها مفتتحاً لها بحرف التوقع فقال مؤكداً تنبيهاً على أن فرعون فعل فعل قريش في الإدبار عن الآيات العظيمة ولم يترك موسى عليه السلام شيئاً مما أوحي إليه من إنذاره: { ولقد أرسلنا } أعاد الفعل وأبرزه في مظهر العظمة إشارة إلى باهر معجزاته { موسى بآياتنا } أي المعجزات التي أظهرها { وسلطان } أي أمر قاهر للقبط، والظاهر أنه حكاية موسى عليه السلام منه على ما كان له من السطوة والتحرق عليه { مبين* } أي بين بنفسه، وهو في قوة بيانه كأنه مبين لغيره ما فيه من الأسرار، والآية تعم الأمارة والدليل القاطع، و السلطان يخص القاطع، والمبين يخص ما فيه جلاء { إلى فرعون } طاغية القبط { وملئه } أي أشراف قومه الذين تتبعهم الأذناب، لأن القصد الأكبر رفع أيديهم عن بني إسرائيل.
ولما كان الناصح لنفسه من لا يتبع أحداً إلا فيما يعلم أنه صواب، قال معجباً من الملأ مشيراً إلى سرعة تكذيبهم بالبينات وإتباعهم فيما ضلاله لا يخفى على من له مسكة: { فاتبعوا } أي فتسبب عن هذا الأمر الباهر أن عصى فرعون وحمل ملؤه أنفسهم على أن تبعوا لإرادتنا ذلك منهم { أمر فرعون } أي كل ما يفهمون عنه أنه يهواه ويأمره به وتبعهم السفلة فأطبقوا على المنابذة إلا من شاء الله منهم { وما } أي والحال أنه ما { أمر فرعون برشيد* } أي سديد، مع أن في هذا التعقيب بعد ذكر ثمود من التذكير بآيتي الناقة والعصا إشارة إلى القدرة على البعث المذكور أول السورة الموجب خوفه لكل خير كما أن ذلك أيضاً كان من فوائد تعقيب قصة إبراهيم لقصة صالح عليهما السلام، واقتصر هنا على ذكر فرعون وقومه لأن المقصود من هذه القصص - كما تقدم - التثبيت في المكافحة بإبلاغ الإنذار وإن اشتدت كراهية المبلغين وقل المتبع منهم، وأن لا يترك شيء منه خوف إصرارهم أو إدبارهم ولا رجاء إقبالهم وكثرة مؤمنيهم، وهذه حال آل فرعون، وأما بنو إسرائيل فإنهم لم يتوقفوا إلا خوفاً من فرعون في أول الأمر، ثم أطبق كلهم على الإتباع، ثم صاروا بعد ذلك كل قليل يبدلون لا كراهية للإنذار بل لغير ذلك من الأمور وعجائب المقدور كما بين في قصصهم؛ والملأ: الأشراف الذين تملأ الصدور هيبتهم عند رؤيتهم؛ والإتباع، طلب، طلب الثاني للتصرف بتصرف الأول في أي جهة أخذ، وقد يكون عن كره بخلاف الطاعة؛ والأمر: الإيجاب بصيغة "أفعل" وهو يتضمن إرادة المأمور به في الجملة، وقد لا يراد امتثال عين المأمور؛ والرشيد: القائد إلى الخير الهادي إليه؛ ثم أوضح عدم رشد أمر فرعون بقوله: { يقدم قومه } أي الذين كان لهم قوة المدافعة { يوم القيامة } ويكونون له تبعاً كما كانوا في الدنيا، وأشار بإيراد ما حقه المضارع ماضياً إلى تحقق وقوعه تحقق ما وقع ومضى فقال: { فأوردهم النار } أي كما أوردهم في الدنيا غطاءها وهو البحر. ولما كان التقدير: فبئس الواردون، عطف عليه بيان الفعل والمفعول فقال: { وبئس الورد المورود* } كما كان البحر إذ وردوه أقبح ورد ورده إنسان، لأن الورد يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، وهذا يفيد ضد ذاك.
ولما كان فرعون موصوفاً بعظم الحال وكثرة الجنود والأموال وضخامة المملكة، حقر تعالى دنياه بتحقير جميع الدنيا التي هي منها بإسقاطها في الذكر اكتفاء بالإشارة إليها ولم يثبتها كما في قصة عاد فقال: { وأتبعوا } ببنائه للمفعول لأن المنكي الفعل لا كونه من معين { في هذه } أي الحياة الخسيسة { لعنة } فهم يلعنون فيها من كل لاعن من المسلمين وغيرهم من أهل الملل فلعنة الله على من حسَّن حالهم وارتضى ضلالهم لإضلال العباد من أهل الإلحاد بفتنة الاتحاد { ويوم القيامة } أيضاً يلعنهم اللاعنون، حتى أهل الاتحاد الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين؛ ثم بين ما يحق أن يقوله سامع ذلك بقوله: { بئس الرفد المرفود* } أي التبع المتبوع والعون المعان، فإن اللعنة تابعة لعذابهم في الدنيا ومتبوعة باللعنة في الآخرة والعذاب رفد لها وهي رفد له، ومادة "رفد" تدور على التبع، أو يكون المراد أن لعنهم لا يزال مترادفاً تابعاً بعضه لبعض، فكل لعنة تابعة لشيء من الخزي: عذاب أو لعن، متبوعة بلعنة مضافة إليها، وسمي ذلك رفداً وهو حقيقة العون من باب قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع ومعنى { يقدم } أنه يكون قدامهم غير سائق لهم، بل هم على أثره متلاحقين، فيكون دخولهم إلى النار معاً؛ والقيامة: القومة من الموت للحساب؛ والإتباع: طلب الثاني للحاق بالأول كيف تصرف؛ واللعن من الله: الإبعاد من الرحمة بالحكم بذلك، ومن العباد: الدعاء به.