التفاسير

< >
عرض

يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
-يوسف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أقام لهم الدليل على ما هو عليه من الدين الحنيفي تبعاً لخلاصة الخلق، بما تقرر في الأذهان من أن الله تعالى هو المنعم وحده سبحانه فيجب شكره، بعد أن قرر لهم أمر نبوته وأقام دليلها بما يخبرهم به من المغيبات، ودعاهم إلى ما يجب عليهم من التوحيد وهو الإسلام، وكان أكثر الخلق إلاّ الفذ النادر يقرون بالإله الحق، ولكنهم يشركون به بعض خلقه، أتبعه برهان التمانع على فساد كل ملة غير الإسلام الذي يطابق عليه الأنبياء والرسل كلهم، تأييداً لأدلة النقل بقاطع العقل، فقال منادياً لهما باسم الصحبة بالأداة التي تقال عند ما له وقع عظيم في النفوس في المكان الذي تخلص فيه والمودة، وتمحض فيه النصيحة، وتصفي فيه القلوب، ويتعمد الإخلاص رجاء الخلاص -: { ياصاحبي السجن } والصحبة: ملازمة اختصاص كأصحاب الشافعي مثلاً، لملازمة الاختصاص بمذهبه، وهي خلاف ملازمة الاتصال.
ولما فرغ أفهامهما بالنداء لما يلقيه، قرع أسماعهما بالإنكار مع التقرير فقال: { ءَأربابٌ } أي آلهة { متفرقون } متباينون بالذوات والحقائق تشاهدونهم محتاجين إلى المكان مع كونهم جماداً، ولو كانوا أحياء لأمكن تمانعهم، فأدى إلى إمكان عجز كل منهم القاطع بعدم صلاحيته للإلهية { خير } أي أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة { أم الله } أي الملك الأعلى { الواحد } بالذات، فهو لا يحتاج إلى شيء أصلاً { القهار * } لكل شيء، لا يزال قهره يتكرر أبداً، فهذا برهان لا خطأ به كما ظن، وأبرزه صلى الله عليه وسلم على وجه الاستفهام استجلاباً للسامع برد العلم إليه، وسماها أرباباً لمثل ذلك بناء على زعمهم، وكذا المشاركة في أفعل التفضيل، لأن ذلك أقرب إلى الإنصاف، لكونه ألين في القول، فيكون أدعى إلى القبول.
ولما كان الجواب لكل من يعقل: الله خير، أشار إلى ذلك بجزم القول بعد ذلك الاستفهام في سلب صلاحيتهم قبل هذا الإمكان بعدم حياتهم، وعلى تقدير حياتهم بعجزهم، فقال: { ما تعبدون } والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع، وبين حقارة معبوداتهم وسفولها بقوله: { من دونه } أي الله الذي قام برهان التمانع - الذي هو البرهان الأعظم - على إلهية وعلى اختصاصه بذلك { إلا أسماء } وبين ما يريد وأوضحه بقوله: { سميتموها } أي ذوات أوجدتم لها أسماء { أنتم وآباؤكم } لا معاني لها، لأنه لا أرواح لها فضلاً عن أن تتحقق بمعنى ما سميتموها به من الإلهية، وإن كان لها أرواح فهي منتف عنها خاصة الإلهية، وهي الكمال المطلق الذي يستلزم إحاطة العلم والقدرة.
ولما كان مقصود السورة وصف الكتاب بالإبانة للهدى، وكان نفي الإنزال كافياً في الإبانة، لأن عبادة الأصنام باطلة،ولم يكن في السياق كالأعراف مجادلة توجب مماحكة ومماطلة ومعالجة ومطاولة، قال نافياً للإنزال بأي وصف كان: { ما أنزل الله } أي المحيط علماً وقدرة. فلا أمر لأحد معه { بها } وأعرق في النفي فقال: { من سلطان } أي برهان تتسلط به على تعظيمها، فانتفى تعظيمها لذاتها أو لغيرها، وصار حاصل الدليل: لو كانوا أحياء يحكمون لم يصلحوا للإلهية، لإمكان تمانعهم المؤدي إلى إمكان عجز كل منهم الملزوم لأنهم لأ صلاحية فيهم للإلهية، لكنهم ليسوا أحياء، فهم أجدر بعدم الصلاحية، فعلم قطعاً أنه لا حكم لمقهور، وأن كل من يمكن أن يكون له ثان مقهور؛ فأنتج هذا قطعاً أن الحكم إنما هو لله الواحد القهار، وهو لم يحكم بتعظيمها؛ وذلك معنى قوله: { إن } أي ما { الحكم إلاّ لله } أي المختص بصفات الكمال؛ والحكم: فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة.
ولما انتقى الحكم عن غيره، وكان ذلك كافياً في وجوب توحيده، رغبة فيما عنده، ورهبة مما بيده، أتبعه تأكيداً لذلك وإلزاماً به أنه حكم به، فقال: { أمر ألا تعبدوا } أي أيها الخلق في وقت من الأوقات على حال من الأحوال { إلا إياه } أي وهو النافذ الأمر المطاع الحكم.
ولما قام هذا الدليل على هذا الوجه البين، كان جديراً بالإشارة إلى فضله، فأشار إليه بأداة البعد، تنبيهاً على علو مقامه وعظيم شأنه فقال: { ذلك } أي الشأن الأعظم، وهو توحيده وإفراده عن خلقه { الدين القيم } أي الذي لا عوج فيه فيأتيه الخلل من جهة عوجه، الظاهر أمره لمن كان له قلب { ولكن أكثر الناس } أي لما لهم الاضطراب مع الحظوظ { لا يعلمون * } أي ليس لهم علم، لأنهم لا ينتفعون بعقولهم، فكأنهم في عداد البهائم العجم، فلأجل ذلك هم لا يفردون الله بالعبادة.