التفاسير

< >
عرض

ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
٩٣
وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ
٩٤
قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ
٩٥
فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٩٦
قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ
٩٧
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٩٨
-يوسف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أقر أعينهم بعد اجتماع شملهم بإزالة ما يخشونه دنيا وأخرى، بقي ما يخص أباهم من ذلك، فكأنه وقع السؤال عنه فأجيب بقوله: { اذهبوا بقميصي } ولما كان قوله هذا ربما أوقع في أفهامهم قميصه الذي سلبوه إياه، احترز عن ذلك بقوله: { هذا فألقوه } أي عقب وصولكم { على وجه أبي يأت } أي يرجع إلى ما كان { بصيراً } أو يأت إلى حالة كونه بصيراً، فإنه إذا رد إليه بصره وعلم مكاني لم يصبر عن القصد إليّ لما عنده من وفور المحبة وعظيم الشوق، وكونه قميصاً من ملابس يوسف المعتادة أدخل في الغرابة وأدل على الكرامة؛ والقميص ألصق الثياب بالجسم، فإظهار الكرامة به أدل على كمال دين صاحبه وعراقته في أمور الإيمان، وهو يؤول في المنام بالدين، وذلك أدخل في كمال السرور ليعقوب عليه الصلاة والسلام { وأتوني } أي بأبي وأنتم { بأهلكم } أي مصاحبين لهم { أجمعين * } لا يتخلف منهم أحد، فرجعوا بالقميص لهذا القصد، قيل: كان يهوذا هو الذي حمل قميصه لما لطخوه بالدم، فقال: لا يحمل هذا غيري لأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حافٍ حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما ثمانون فرسخاً { ولما فصلت العير } من العريش آخر بلاد مصر إلى بلاد الشام { قال أبوهم } لولد ولده ومن حوله من أهله، مؤكداً لعلمه أنهم ينكرون قوله: { إني لأجد } أي لأقول: إني لأجد { ريح يوسف } وصدهم عن مواجهته بالإنكار بقوله: { لولا أن تفندون * } أي لقلت غير مستح ولا متوقف، لأن التفنيد لا يمنع الوجدان، وهو كما تقول لصاحبك: لولا أن تنسبني إلى الخفة لقلت كذا، أي إني قائل به مع علمي بأنك لا توافقني عليه، "وفصل" هنا لازم يقال: فصل من البلد يفصل فصولاً، والفصل: القطع بين الشيئين بحاجز، والوجدان: ظهور من جهة إدراك يستحيل معه انتفاء الشيء، والريح: عرض يدرك بحاسة الأنف أي الشم، والتفنيد: تضعيف الرأي بالنسبة إلى الفند، وهو الخوف وإنكار العقل من هرم، يقال: شيخ مفند، ولا يقال: عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فيفندها كبرها؛ ثم استأنف حكاية جوابهم فقال: { قالوا } أي السامعون له ما ظنه بهم، مقسمين بما دل على تعجبهم، وهو { تالله } أي الملك الأعظم، وأكدوا لمعرفتهم أنه ينكر كلامهم وكذا كل من يعرف كماله { إنك لفي ضلالك } أي بحيث صار ظرفاً لك { القديم * } أي خطئك في ظن حياة يوسف؛ قال الرماني: والضلال: الذهاب عن جهة الصواب. فصحح الله قوله وحقق وجدانه، وعجلوا إليه بشيراً فأسرع بعد الفصول، ولذلك عبر بالفاء في { فلما } وزيدت { أن } لتأكيد مجيئه على تلك الحال وزيادتها قياس مطرد { جاء البشير } وهو يهوذا بذلك، معه القميص { ألقاه } أي القميص حين وصل إلى يعقوب عليه الصلاة والسلام من غير فاصل ما بين أول المجيء وبينه كما أفادته زيادة "أن" لتأكيد ما تفيده " لما " من وقوع الفصل الثاني وهو هنا الإلقاء عقب الأول وترتبه عليه وهو هنا المجيء { على وجهه } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام { فارتد } من حينه { بصيراً } والارتداد: انقلاب الشيء إلى حال كان عليها، فالتفت الخاطر إلى حاله مع فنده، فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً: { قال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام { ألم أقل لكم }: إني أجد ريحه؛ ثم علل هذا التقرير بقوله مؤكداً لأن قولهم قول من ينكر: { إني أعلم من الله } أي المختص بصفات الكمال { ما لا تعلمون * } لما خصني به تعالى من أنواع المواهب، وهو عام لأخبار يوسف عليه الصلاة والسلام وغيرها، وهو من التحديث بنعمة الله.
ولما كان ذلك تشوفت النفس إلى علم ما يقع بينه وبين أولاده في ذلك، فدفع عنها هذا العناء بقوله: { قالوا ياأبانا } منادين بالأداة التي تدل على الاهتمام العظيم بما بعدها لما له من عظيم الوقع: { استغفر } أي اطلب من الله أن يغفر { لنا ذنوبنا } ورد كل ضمير من هذه الضمائر إلى صاحبه في غاية الوضوح، فلذلك لم يصرح بصاحبه.
ولما سألوه الاستغفار لذنوبهم، عللوه بالاعتراف بالذنب، لأن الاعتراف شرط التوبة - كما قال صلى الله عليه وسلم:
" "إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه" فقالوا مؤكدين تحقيقاً للإخلاص في التوبة: { إنا كنا خاطئين * } أي متعمدين للإثم بما ارتكبنا في أمر يوسف علية الصلاة والسلام؛ ثم حكى جوابه بقوله مستأنفاً: { قال } أي أبوهم عليه السلام مؤكداً لكلامه: { سوف أستغفر } أي أطلب أن يغفر { لكم ربي } أي الذي لم يزل يحسن إليّ ويربيني أحسن تربية، فهو الجدير بأن يغفر لبني حتى لا يفرق بيني وبينهم في دار البقاء؛ والربوبية: ملك هو أتم الملك على الإطلاق، وهو ملك الله تعالى لإنشاء الأنفس باختراعها وتصريفها أتم التصريف من الإيجاد والإعدام والتقليب من حال إلى حال في جميع الأمور من غير تعب؛ ثم علل ذلك بقوله: { إنه هو } أي وحده { الغفور الرحيم * } كل ذلك تسكيناً لقلوبهم وتصحيحاً لرجائهم ليقوى أملهم، فيكون تعالى عند ظنهم بتحقيق الإجابة وتنجيزاً لطلبه؛ ولعله عبر بـ"سوف" لتقديم هاتين الجملتين على المسألة لما ذكرته من الأغراض، وقيل: لأنه أخر الدعاء إلى صلاة الليل، وقيل: إلى ليلة الجمعة؛ وقيل: يؤخذ منها أن طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منه إلى الشيوخ.