التفاسير

< >
عرض

إِنَّا كَفَيْنَاكَ ٱلْمُسْتَهْزِئِينَ
٩٥
ٱلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلـٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
٩٦
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ
٩٧
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ ٱلسَّاجِدِينَ
٩٨
وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ
٩٩
-الحجر

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا الصدع في غاية الشدة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة ما يلقى عليه الأذى، خفف عنه سبحانه بقوله معللاً له: { إنا كفيناك } أي بما لنا من العظمة { المستهزءين * } أي شر الذين هم عريقون في الاستهزاء بك وبما جئت به، فأقررنا عينك بإهلاكهم، وزال عنك ثقل ما آذوك به، وبقي لك أجره، وسنكفيك غيرهم كما كفيناكهم، ثم وصفهم بقوله: { الذين يجعلون مع الله } أي مع ما رأوا من آياته الدالة على جلاله، وعظيم إحاطته وكماله { إلهاً }.
ولما كانت المعية تفهم الغيرية، ولا سيما مع التعبير بالجعل، وكان ربما تعنت منهم متعنت باحتمال التهديد على تألهه سبحان على سبيل التجريد، أو على دعائه باسم غير الجلالة، لما ذكر المفسرون في قوله
{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } [ الإسراء: 110] الآية آخر سبحان، زاد في الصراحة بنفي كمال كل احتمال بقوله: { ءاخر } قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن، فقال أبو جهل: إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين؟ فأنزل الله هذه الآية يعني آية سبحان، وتسبب عن أخذنا للمستهزئين - وكانوا أعتاهم - أن يهدد الباقون بقولنا: { فسوف يعلمون } أي يحيط علمهم بشدة بطشنا وقدرتنا على ما نريد، ليكون وازعاً لغيرهم، أو يعلم المستهزئون وغيرهم عاقبة أمورهم في الدارين.
ولما كان صدعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك على حد من المشقة عظيم وإن أريح من المستهزئين، لكثرة من بقي ممن هو على مثل رأيهم، قال يسليه ويسخي بنفسه فيه: { ولقد نعلم } أي تحقق وقوع علمنا على ما لنا من العظمة { أنك } أي على ما لك من الحلم وسعة البطان { يضيق صدرك } أي يوجد ضيقه ويتجدد { بما يقولون } عند صدعك لهم بما تؤمر، في حقك من قولهم: { ياأيها الذي نزل عليه الذكر } إلى آخره، وفي حق الذي أرسلك من الشرك والصاحبة والولد وغير ذلك { فسبح } بسبب ذلك، ملتبساً { بحمد ربك } أي نزهه عن صفات النقص التي منها الغفلة عما يعمل الظالمون، مثبتاً له صفات الكمال التي منها إعزاز الولي وإذلال العدو { وكن } أي كوناً جبلياً لا انفكاك له { من الساجدين * } له، أي المصلين، أي العريقين في الخضوع الدائم له بالصلاة التي هي أعظم الخضوع له وغيرها من عبادته، ليكفيك ما أهمك فإنه لا كافي غيره، فلا ملجأ إلى سواه، وعبر عنها بالسجود إشارة إلى شرفه وما ينبغي من الدعاء فيه لا سيما عند الشدائد، فقد قال تعالى:
{ { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة: 45] وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة" - ذكره البغوي بغير سند، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر صلى. وفي سنن النسائي الكبرى ومسند أحمد "عن علي رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح. " وفي لفظ لأحمد: " لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح. " ولأحمد ومسلم وأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" .
ولما أمره بعبادة خاصة، أتبعه بالعامة فقال: { واعبد ربك } أي دم على عبادة المسحن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ بالصلاة وغيرها { حتى يأتيك اليقين } بما يشرح صدرك من الموت أو ما يوعدون به من الساعة أو غيرها مما { يود الذين كفروا معه لو كانوا مسلمين } قال الرازي في اللوامع: وهذا دليل على أن شرف العبد في العبودية، وأن العبادة لا تسقط عن العبد بحال ما دام حياً - انتهى. وقال البغوي: وهذا معنى ما في سورة مريم عليها السلام { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } } [ مريم:31] فقد انطبق آخر السورة - في الأمر باتخاذ القرآن بلاغاً لكل خير والإعراض عن الكفار - على أولها أتم انطباق، واعتنق كل من الطرفين: الآخر والأول أي اعتناق - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.