التفاسير

< >
عرض

خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
-النحل

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان خلق السماوات والأرض غيباً لتقدمه، وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة، مع كونه أدل على ذلك من حيث إنه أشرف من كل ما يعبده من دون الله، ولن يكون الرب أدنى من العبد أصلاً، قال معللاً: { خلق الإنسان } أي هذا النوع الذي خلقه أدل ما يكون على الوحدانية والفعل بالاختيار، لأنه أشرف ما في العالم السفلي من الأجسام لمشاركته للحيوان الذي هو أشرف من غيره بالقوى الشريفة من الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، واختصاصه بالنطق الذي هو إدراك الكليات والتصرف فيها بالقياسات { من نطفة } أي آدم عليه السلام من مطلق الماء، ومن تفرع منه بعد زوجه من ماء مقيد بالدفق.
ولما كان - مع مشاركته لغيره من الحيوان في كونه من نطفة - متميزاً بالنطق المستند إلى ما في نفسه من عجائب الصنع ولطائف الإدراك، كان ذلك أدل دليل على كمال قدرة الفاعل واختياره، فقال تعالى: { فإذا هو } أي الإنسان المخلوق من الماء المهين { خصيم } أي منطيق عارف بالمجادلة { مبين * } أي بين القدرة على الخصام، وموضح لما يريده غاية الإيضاح بعد أن كان ما لا حسّ به ولا حركة اختيارية عنده بوجه، أفلا يقدر الذى ابتدأ ذلك على إعادته!
ولما صار التوحيد بذلك كالشمس، وكان كل ما في الكون - مع أنه دال على الوحدانية - نعمة على الإنسان يجب عليه شكرها، شرع يعدد ذلك تنبيهاً له على وجوب الشكر بالتبرؤ من الكفر، فقال مقدماً الحيوانات لأنها أشرف من غيرها، وقدم منها ما ينفع الإنسان لأنه أجلّ من غيره. مبتدئاً بما هو أولاها بالذكر لأنه أجلّها منفعة في ضرورات المعيشة وألزمها لمن أنزل الذكر بلسانهم: { والأنعام } أي الأزواج الثمانية: الضأن والمعز والإبل والبقر { خلقها } غير ناطقة ولا مبينة مع كونها أكبر منكم خلقاً وأشد قوة.
ولما كان أول ما يمكن أن يلقى الإنسان عادة من نعمها اللباس، بدأ به، فقال على طريق الاستئناف: { لكم فيها دفء } أي ما يدفأ به فيكون منه حر معتدل من حر البدن الكائن بالدثار بمنع البرد، وثنى بما يعم جميع نعمها التي منها اللبن فقال: { ومنافع } ثم ثلث بالأكل لكونه بعد ذلك فقال تعالى: { ومنها تأكلون * } وقدم الظرف دلالة على أن الأكل من غيرها بالنسبة إلى الأكل منها مما لا يعتد به، ثم تلاه بالتجمل لأنه النهاية لكونه للرجال فقال تعالى: { ولكم } أي أيها الناس خاصة { فيها } أي الأنعام { جمال } أي عظيم.
ولما كان القدوم أجل نعمة وأبهج من النزوح، قدمه فقال: { حين تريحون } بالعشي من المراعي وهي عظيمة الضروع طويلة الأسنمة { وحين تسرحون * } بالغداة من المُراح إلى المراعي، فيكون لها في هاتين الحالتين من الحركات منها ومن رعاتها ومن الحلب والتردد لأجله وتجاوب الثغاء والرغاء أمر عظيم وأنس لأهلها كبير.