التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
٦١
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٢
قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً
٦٣
-الإسراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تقدم أنهم استبعدوا الإعادة من أجل صيرورتهم بعد الموت رفاتاً، وأخبر تعالى بقدرته على ذلك ولو صاروا إلى ما هو أعسر عندهم في الإعادة من الرفات بأن يكونوا حجارة أو حديداً، وأشار إلى قدرته على التصرف بخرق العادة في الحديد بإلانته لعبد من عبيده، ثم في الحجارة على سبيل الترقي في النشر المشوش بما هو أعجب من ذلك، وهو إفاضة الحياة عليها لعبد آخر من عبيده، أشار إلى تصرفه في التراب الذي هو نهاية الرفات الذي حملهم على الاستبعاد بما هو أعجب من كل ما تقدمه، وذلك بإفاضة الحياة الكاملة بالنطق عليه من غير أن تسبق له حالة حياة أصلاً، وذلك بخلق آدم عليه السلام الذي هو أصلهم، مع ما في ذلك من حفظ السياق في التسلية بأن الآيات لا تنفع المحكوم بشقاوته وبأن آدم عليه السلام قد سلط عليه الحاسد واشتد أذاه له مع أنه صفي الله وأول أنبيائه، مع البيان لأن أغلب أسباب الطغيان الحسد الذي حمل إبليس على ما فعل فقال تعالى: { وإذ } أي واذكر أيضاً ما وقع من الطغيان مع رؤية الآيات في أول هذا الكون من إبليس الذي هو من أعلم الخلق بآيات الله وعظمته، ثم ممن اتبعه من ذرية آدم عليه السلام بعد تحقق عداوته في مخالفة ربهم المحسن إليهم مع ادعاء ولايته إذ { قلنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يعصي مرادها شيء { للملائكة } حين خلقنا أباكم آدم وفضلناه: { اسجدوا لآدم } امتثالاً لأمري { فسجدوا إلا إبليس } أبى أن يسجد لكونه ممن حقت عليه الكلمة ولم ينفعه ما يعلمه من قدرة الله وعظمته، وذلك معنى قوله: { قال } أي لنا منكراً متكبراً: { ءأسجد } أي خضوعاً { لمن خلقت } حال كون أصله { طيناً * } فكفر بنسبته لنا إلى الجور وعدم الحكمة، متخيلاً أنه أكرم من آدم عليه السلام من حيث إن الفروع ترجع إلى الأصول، وأن النار التي هي أصله أكرم من الطين، وذهب عليه إن الطين أنفع من النار فهو أكرم، وعلى تقدير التنزل فإن الجواهر كلها من جنس واحد، والله تعالى الذي أوجدها من العدم يفضل بعضها على بعض بما يحدث فيها من الأعراض، كما تقدمت الإشارة إليه في { ولقد فضلنا بعض النبيّن على بعض } [الإسراء:55].
ولما أخبر تعالى بتكبره، كان كأنه قيل: إن هذه لوقاحة عظيمة واجتراء على الجناب الأعلى، فهل كان غير هذا؟ فقيل: نعم! { قال أرءيتك } أي أخبرني { هذا الذي كرمت عليّ } بم كرمته عليّ مع ضعفه وقوتي؟ فكأنه قيل: لقد أتى بالغاية في إساءة الأدب، فما كان بعد هذا؟ فقيل: قال مقسماً لأجل استبعاد أن يجترىء أحد هذه الجراءة على الملك الأعلى: { لئن أخرتن } أي أيها الملك الأعلى تأخيراً ممتداً { إلى يوم القيامة } حياً متمكناً { لأحتنكن } أي بالإغواء { ذريته } أي لأستولين عليهم بشدة احتيالي كما يستولي الآكل على ما أخذه في حنكه، بتسليطك لي عليهم { إلا قليلاً * } وهم أولياؤك الذين حفظتهم مني، فكأنه قيل: لقد أطال في الاجتراء فما قال له ربه بعد الثالثة؟ فقيل: { قال } مهدداً له: { اذهب } أي امض لثباتك الذي ذكرته بإرادتي لا بأمري، فإنك لن تعدو أمرنا فيك وقد حكمنا بشقاوتك وشقاوة من أردنا طاعته لك، ولذلك سبب عنه قوله تعالى: { فمن تبعك } أي أدنى اتباع { منهم } أي أولاد آدم عليه السلام، ويجوز أن يراد بتجريد الفعل أن من تبعه بغير معالجة من فطرته الأولى لا يكون إلا عريقاً في الشر.
ولما كان التقدير: أذقته من خزيك، عبر عنه بقوله تعالى: { فإن جهنم } أي الطبقة النارية التي تتجهم داخلها { جزاؤكم } أي جزاءك وجزاءهم، تجزون ذلك { جزاء موفوراً * } مكملاً وافياً بما تستحقون على أعمالكم الخبيثة.
ومادة "وفر" بجميع تراكيبها - وهي خمسة عشر، في الواوي ستة: وفر، ورف، فور، فرو، رفو، روف، وفي اليائي ثلاثة: فري، رفي، ريف، وفي المهموز ستة: رفأ، رأف، فرأ، فأر، أفر، أرف - تدور على السعة، والمجاوزة للحد، والعلو على المقدار، والفضل عن الكفاية؛ فالوفر: المكان الكبير، وسقاء وفر: لم ينقص من أديمه شيء، وإداوة وفراء، والوفرة: ما بلغ الأذنين من الشعر، والوافر: ضرب من العروض وزنه مفاعلتن ست مرات، والوفر: الغنى، ومن المال: الكثير الواسع، والعام من كل شيء، ووفره توفيراً: أكثره، ووفر له عرضه: لم يشتمه، ووفر عطاءه: رده عليه وهو راضٍ، ووفره توفيراً: أكمله وجعله وافراً - لأن الكمال لا يكاد يتحقق إلا مع زيادة، والثوب: قطعه وافراً، والوافرة: ألية الكبش إذا عظمت، والدنيا، والحياة، وكل شحمة مستطيلة، وهم متوافرون: فيهم كثرة، واستوفر عليه حقه: استوفاه.
وورف النبت يرف إذا رأيت له بهجة من ريه، ولا يكون ذلك إلا من نضارته واتساعه وكونه ملء العين، وورف الظل يرف ورفاً ووريفاً ووروفاً: اتسع وطال وامتد كأورف وورّف والورف: ما رق من نواحي الكبد - لزيادته واسترخائه، والرفة - كعدة: الناضر من النبت، وورفته توريفاً: مصصته، والأرض: قسمتها - كأنه من الإزالة.
وفارت القدر - إذا غلت حتة يعلو ما فيها فتفيض، وكل حارّ يفور فوراً، وفار العرق - إذا انتفخ، زاد في القاموس: وضرب، والمسكُ، انتشر، وفارة الإبل: فوح جلودها إذا نديت بعد الورد، والفائر: المنتشر العصب من الدواب وغيرها، وأتوا من فورهم: من وجههم أو قبل أن يسكنوا - لأن حركتهم توسع وانتشار فسميت فوراً والفار: عضل الإنسان - لأنه أثخن مما دونه، والفور - بالضم: الظباء، جمع فائر - لأنه من أسرع الحيوان نفاراً، وأشدها وثباً، وأوسعها عدواً، وقال القزاز: والفارة والفورة: ريح تكون في رسغ الفرس تنفش إذا مسحت وتجتمع إذا تركت، وقال في فأر: فإذا مشى انفشت، وأعاده في القاموس في المهموز فقال: والفأرة له - أي للذكر من الحيوان المعروف - وللأنثى، وريح في رسغ الدابة تنفش إذا محست وتجتمع إذا تركت كالفورة بالضم، والفور: ولد الحمار - لخفته وسرعة حركته ووثبه، وفوارتا الكرش: غدتان في جوف لحمتين، وقيل: الفوارة: اللحمة - التي في داخلها الغدة، وقيل: تكونان لكل ذي لحم، وذلك لوجوب الزيادة سواء قلنا: إنها لحمة أو غدة، وقال القزاز: وقالوا: ماء الرجل إنما يقع في الكلية ثم في الفوارة ثم في الخصية، فعلى هذا سمي لأنه يقذف ما فيه إلى الخصية، والفياران - بالكسر: حديدتان تكتنفان لسان الميزان لاتساعهما عن اللسان، والفيرة - بالكسر بالهمز وبغيره: تمر يغلى ويمرس ويطبخ بحلبة تشربها النفساء قاله القزاز، وفي مختصر العين: حلبة تطبخ؛ فإذا فارت فوارتها ألقيت في معصرة ثم صفيت وتحسيها النفساء، وأعاده في القاموس في المهموز وقال: والفئرة - بالكسر - والفؤارة كثمامة والفئيرة والفئرة كعنبة ويترك همزها: حلبة تطبخ للنفساء - سميت إما لغليانها وإما للاتساع بجمع التمر والحلبة.
والفرو والفروة: لبس معروف - لخروج صوفها وزيادة الرفق به، كأنها أصل المادة كلها، وفروة الرأس: جلدته بشعرها، والفروة: الأرض البيضاء ليس لها نبات - لأنه أوسع لها من حيث هي، والفروة: الغنى والثروة وقطعة نبات مجتمعة يابسة، وجبة شمر كماها - لأنه لولا زيادتهما ما شمرا، ونصف كساء يتخذ من أوبار الإبل - كأنه شبه بالفروة لطول وبره، وخريطة يجعل السائل فيها صدقته، والتاج - لاتساعه وعلوه وكماله ولغنى صاحبه، وخمار المرأة - لزيادته على كفايتها ولسبوغه وفضله عن رأسها.
ورفا الثوب يرفوه: أصلحه ولأم خرقه: وقال في القاموس: في المهموز: وضم بعضه إلى بعض، قال القزاز: والهمز أكثر؛ والرفاء - ككساء: الالتحام والاجتماع والاتفاق، ومنه ما يدعى به للمتزوج: بالرفاء والبنين، وأعادوه في المهموز. وقال في القاموس: أي بالالتئام وجمع الشمل، قال القزاز: ومعنى رفا: تزوج، والأرفى: العظيم الأذنين في استرخاء، قال القزاز: والأذن الرفواء هي التي تقبل على الأخرى حتى تكاد تماس أطرافهما؛ ورفوت الرجل: إذا سكنته من رعب، وأعاده في القاموس في المهموز - لأن ذلك أوسع لفكره لأنه أقر لعينه.
والروف: السكون - وهو أوسع من الاضطراب لأنه لا يكون إلا عن قرار العين، قال في القاموس: وليس من الرأفة، والروفة: الرحمة، وراف يراف لغة في رأف يرأف - وستأتي بقيتها قريباً إن شاء الله تعالى.