التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً
٨٣
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً
٨٤
فَأَتْبَعَ سَبَباً
٨٥
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً
٨٦
قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً
٨٧
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً
٨٨
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
٨٩
حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً
٩٠
-الكهف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم، عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة، وقوام كل أمر، فقال عاطفاً على { ويجادل الذين كفروا بالباطل } [ الكهف:56] { ويسألونك عن } الرجل الصالح المجاهد { ذي القرنين } سمي لشجاعته أو لبلوغه قرني مغرب الشمس ومشرقها، أو لانقراض قرنين من الناس في زمانه، أو لأنه كان له ضفيرتان من الشعر أو لتاجه قرنان، وهو الإسكندر الأول - نقل ابن كثير عن الأزرقي أنه كان على زمن الخليل عليه السلام، وطاف معه بالبيت، ومن المناسبات الصورية أن في قصة كل منهما ثلاثة أشياء آخرها بناء جدار لا سقف له، وإنما هو لأجل حفظ ما يهتم به خوف المفسد، وصدّرها بالإخبار عن سؤالهم إشارة إلى أنهم لم يسألوا عن التي قبلها على ما فيها من العجائب واللطائف، والأسرار والمعارف، تبكيتاً لليهود في إغفال الأمر بالسؤال عنها إن كان مقصودهم الحق، وإن لم يكن مقصوداً لهم كانوا بالتبكيت أجدر، أو تكون معطوفة على مسألتهم الأولى وهي الروح، وصدرها بالإخبار بالسؤال تنبيهاً على ذلك لطول الفصل، إشارة إلى أن ذلك كله مرتبط بجوابهم ارتباط الدر بالسلك.
ولما كان من المعلوم أنه يقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: فبماذا أجيبهم؟ قال: { قل } أي لهم: { سأتلوا } أي أقص قصاً متتابعاً في مستقبل الزمان إن أعلمني الله به { عليكم } أيها المشركون وأهل الكتاب المعلمون لهم مقيداً بأن شاء الله كما سلف لك الأمر به { منه ذكراً * } كافياً لكم في تعرف أمره، جامعاً لمجامع ذكره.
ولما كانت قصته من أدل دليل على عظمة الله، جلاها في ذلك المظهر فقال: { إنا } مؤكداً لأن المخاطبين بصدد التعنت والإنكار { مكنا } أي بما لنا من العظمة، قيل: بالملك وحده، وقيل مع النبوة، لأن ما ينسب إلى الله تعالى على سبيل الامتنان والإحسان جدير بأن يحمل على النهاية لا سيما إذا عبر عنه بمظهر العظمة { له في الأرض } مكنة يصل بها إلى جميع مسلوكها، ويظهر بها على سائر ملوكها { وءاتيناه } بعظمتنا { من كل شيء } يحتاج إليه في ذلك { سبباً } قال أبو حيان: وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود. فأراد بلوغ المغرب، ولعله بدأ به لأن باب التوبة فيه { فأتبع } أي بغاية جهده - هذا على قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو بالتشديد، والمعنى على قراءة الباقين بقطع الهمزة وإسكان الفوقانية: ألحق بعض الأسباب ببعض، وذلك تفسير لقراءة التشديد { سبباً * } يوصله إليه، واستمر متبعاً له { حتى إذا بلغ } في ذلك المسير { مغرب الشمس } أي الحد الذي لا يتجاوزه آدمي في جهة الغرب { وجدها } فيما يحس بحاسة لمسه { تغرب } كما أحسه بحاسة بصره من حيث إنه متصل بما وصل إليه بيده، لا حائل بينه وبينه { في عين حمئة } أي ذات حمأة أي طين أسود، وهي مع ذلك حارة كما ينظر من في وسط البحر أنها تغرب فيه وتطلع منه وعنده القطع بأن الأمر ليس كذلك { ووجد عندها } أي على الساحل المتصل بتلك العين { قوماً } كفاراً لهم قوة على ما يحاولونه ومنعة، فكأنه قيل: ماذا أمر فيهم؟ فأجيب بقوله: { قلنا } بمظهر العظمة: { يا ذا القرنين } إعلاماً بقربه من الله وأنه لا يفعل إلا ما أمره به، إما بواسطة الملك إن كان نبياً وهو أظهر الاحتمالات، أو بواسطة نبي زمانه، أو باجتهاده في شريعته الاجتهاد المصيب، { إما أن تعذب } أي هؤلاء القوم ببذل السيف فيهم بكفرهم { وإما أن تتخذ } أي بغاية جهدك { فيهم حسناً * } أمراً له حسن عظيم، وذلك هو البداءة بالدعاء، إشارة إلى أن القتل وإن كان جائزاً فالأولى أن لا يفعل إلا بعد اليأس من الرجوع عن موجبه { قال أما من ظلم } باستمراره على الكفر فإنا نرفق به حتى نيأس منه ثم نقتله، وإلى ذلك أشار بقوله: { فسوف نعذبه } بوعد لا خلف فيه بعد طول الدعاء والترفق { ثم يرد } بعد الحياة بالموت، أو بعد البرزخ بالبعث، رداً هو في غاية السهولة { إلى ربه } الذي تفرد بتربيته { فيعذبه عذاباً نكراً * } شديداً جداً لم يعهد مثله لكفره لنعمته، وبذل خيره في عبادة غيره، وفي ذلك إشارة بالتهديد الشديد لليهود الغارين لقريش، وإرشاد لقريش إلى أن يسألوهم عن قوله هذا، ليكون قائداً لهم إلى الإقرار بالبعث { وأما من ءامن وعمل صالحاً } تصديقاً لما أخبر به من تصديقه { فله } في الدارين { جزاء } طريقته { الحسنى } منا ومن الله بأحسن منها { وسنقول } بوعد لا خلف فيه بعد اختباره بالأعمال الصالحة { له } أي لأجله { من أمرنا } الذي نأمر به فيه { يسراً * } أي قولاً غير شاق من الصلاة والزكاة والخراج والجهاد وغيرها، وهو ما يطيقه ولا يشق عليه مشقة كبيرة { ثم أتبع } لإرادته بلوغ مشرق الشمس { سبباً * } من جهة الجنوب يوصله إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مر عليها { حتى إذا بلغ } في مسيره ذلك { مطلع الشمس } أي الموضع الذي تطلع عليه أولاً من المعمور من الأرض { وجدها تطلع على قوم } على ساحل البحر لهم قوة شديدة { لم نجعل لهم } ولما كان المراد التعميم، أثبت الجار فقال: { من دونها } أي من أدنى الأماكن إليهم أول ما تطلع { ستراً * } يحول بينهم وبين المحل الذي يرى طلوعها منه من البحر من جبل ولا أبنية ولا شجر ولا غيرها.