التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً
٤٢
يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
٤٣
يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً
٤٤
يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
٤٥
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً
٤٦
قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً
٤٧
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً
٤٨
فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً
٤٩
وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
٥٠
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تكفل ما تقدم من هذه السورة بنفي الشريك بقيد كونه ولداً، أتبع ذلك من قصته ما ينفي الشريك ليقتدي به أولاده في ذلك إذ كانوا يقلدون الآباء وليس في آبائهم مثله، فقال مبدلاً من { إبراهيم } { إذ قال } أي اذكر وقت قوله { لأبيه } هادياً له من تيه الضلال بعبادة الأصنام مستعطفاً له في كل جملة بقوله: { يا أبت }.
ولما كان العاقل لا يفعل فعلاً إلا لثمره، نبهه على عقم فعله بقوله: { لم تعبد } مريداً بالاستفهام المجاملة، واللطف والرفق واللين والأدب الجميل في نصحه له كاشفاً الأمر غاية الكشف بقوله: { ما لا يسمع ولا يبصر } أي ليس عنده قابلية لشيء من هذين الوصفين ليرى ما أنت فيه من خدمته أو يجيبك إذا ناديته حالاً أو مآلاً. ولما كان الأعمى الأصم قد ينفع بكلام أو غيره، قال: { ولا يغني عنك شيئاً * } من الإغناء.
ولما نبهه على أن ما يعبده لا يستحق العبادة، بل لا تجوز عبادته، لنقصه مطلقاً ثم نقصه عن عابده، ولن يكون المعبود دون العابد أصلاً، وكان أقل ما يصل إليه بذلك مقام الحيرة، نبهه على أنه أهل للهداية، فقال مكرراً لوصفه المذكور بالعطف والود: { ياأبت } وأكد علماً منه أنه ينكر أن يكون ابنه أعرف منه بشيء فقال: { إني قد جاءني } من المعبود الحق { من العلم ما لم يأتك } منه { فاتبعني } أي فتسبب عن ذلك أني أقول لك وجوباً على النهي عن المنكر ونصيحة لما لك علي من الحق: اجتهد في تبعي { أهدك صراطاً سوياً * } لا عوج فيه، كما أني لو كنت معك في طريق محسوس وأخبرتك أن أمامنا مهالك لا ينجو منها أحد، وأمرتك أن تسلك مكاناً غير ذلك، لأطعتني، لو عصيتني فيه عدك كل أحد غاوياً.
ولما بين أنه لا نفع فيما يعبده، ونبهه على الوصف المقتضي لوجوب الاقتداء به، بين له ما في عبادة معبوده من الضر فقال: { يا أبت لا تعبد الشيطان } فإن الأصنام ليس لها دعوة أصلاً، والله تعالى قد حرم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل ولي له، فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان، فكان هو المعبود بعبادتها في الحقيقة؛ ثم علل هذا النهي فقال: { إن الشيطان } البعيد من كل خير المحترق باللعنة، وذكر الوصف الموجب للإملاء للعاصي فقال: { كان للرحمن } المنعم بجميع النعم القادر على سلبها، ولم يقل: للجبار - لئلا يتوهم أنه ما أملى لعاصيه مع جبروته إلا للعجز عنه { عصياً * } بالقوة من حين خلق، وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم فأبى فهو عدو لله وله، والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء، لأن صديق العدو عدو.
فلما بين له أنه بذلك عاص للمنعم، خوفه من إزالته لنعمته فقال: { يا أبت إني أخاف } لمحبتي لك وغيرتي عليك { أن يمسك عذاب } أي عذاب كائن { من الرحمن } أي الذي هو ولي كل من يتولاه لعصيانك إياه { فتكون } أي فتسبب عن ذلك أن تكون { للشيطان } وحده وهو عدوك المعروف العداوة { ولياً * } فلا يكون لك نصرة أصلاً، مع ما يوصف به من السخافة باتباع العدو الدني، واجتناب الولي العلي.
فلما وصل إلى هذا الحد من البيان، كان كأنه قيل: ماذا كان جوابه؟ فقيل: { قال } مقابلاً لذلك الأدب العظيم والحكمة البالغة الناشئة عن لطافة العلم بغاية الفظاظة الباعث كثافة الجهل، منكراً عليه في جميع ما قال بإنكار ما بعثه عليه من تحقير آلهته: { أراغب } قدم الخبر لشدة عنايته والتعجيب من تلك الرغبة والإنكار لها، إشارة إلى أنه لا يفعلها أحد؛ ثم صرح له بالمواجهة بالغلظة فقال: { أنت } وقال: { عن ءالهتي } بإضافتها إلى نفسه فقط، إشارة إلى مبالغته في تعظيمها؛ والرغبة عن الشيء: تركه عمداً. ثم ناداه باسمه لا بلفظ النبوة المذكر بالشفقة والعطف زيادة في الإشارة إلى المقاطعة وتوابعها فقال: { يا إبراهيم } ثم استأنف قوله مقسماً: { لئن لم تنته } عما أنت عليه { لأرجمنك } أي لأقتلنك، فإن ذلك جزاء المخالفة في الدين، فاحذرني ولا تتعرض لذلك مني وانته { واهجرني } أي ابعد عني { ملياً } أي زماناً طويلاً لأجل ما صدر منك هذا الكلام، وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتأسية فيما كان يلقى من الأذى، ويقاسي من قومه من العناء، ومن عمه أبي لهب من الشدائد والبلايا - بأعظم آبائه وأقربهم به شبهاً { قال } أي إبراهيم عليه السلام مقابلاً لما كان من طيش الجهل بما يحق لمثله من رزانة العلم: { سلام عليك } أي أنت سالم مني ما لم أومر فيك بشيء؛ ثم استأنف قوله: { سأستغفر } بوعد لا خلف فيه { لك ربي } أي المحسن إليّ بأن أطلب لك منه غفران ذنوبك بأن يوفقك للاسلام الجابّ لما قبله، لأن هذا كان قبل أن يعلم أنه عدو لله محتوم بشقاوته بدليل عدم جزمه بعذابه في قوله: { إني أخاف أن يمسك }.
ثم علل إقدامه على ذلك إشارة إلى أنه مقام خطر بما له من الإذلال لما له من مزيد القرب فقال: { إنه كان بي } أي في جميع أحوالي { حفيّاً * } أي مبالغاً في إكرامي مرة بعد مرة وكرة إثر كرة، ثم عطف على عدوه بالإحسان وعده بما سأل فيه الهجرة فقال: { وأعتزلكم } أي جميعاً بترك بلادكم؛ وأشار إلى أن من شرط المعبود أن يكون أهلاً للمناداة في الشدائد بقوله: { وما تدعون } أي تعبدون { من دون الله } الذي له الكمال كله، فمن أقبل عليه وحده أصاب، ومن أقبل على غيره فقد خاب ولم يقيد الاعتزال بزمن، بل أشار إلى أنهم ما داموا على هذا الدين فهو معتزل لهم { وأدعوا } أي أعبد { ربي } وحده لاستحقاقه ذلك مني بتفرده بالإحسان إليّ، ثم دعا لنفسه بما نبههم به على خيبة مسعاهم فقال غير جازم بإجابة دعوته وقبول عبادته إجلالاً لربه وهضماً لنفسه: { عسى ألاّ أكون } أي كوناً ثابتاً كأنه احترز بذلك عما لا بد للأولياء منه في الدنيا من البلاء { بدعاء ربي } المتفرد بالإحسان إلي { شقياً * } كما كنتم أنتم أشقياء بعبادة ما عبدتموه، لأنه لا يجيب دعاءكم ولا ينفعكم ولا يضركم.
ولما رأى من أبيه ومعاشريه ما رأى، عزم على نشر شقة النوى مختاراً للغربة في البلاد على غربة الأضداد، فكان كما قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمة الله:

وما غربة الإنسان في شقة النوى ولكنها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي

وحقق ما عزم عليه؛ ثم بين سبحانه وتعالى تحقيق رجائه وإجابة دعائه فقال: { فلما اعتزلهم } أي بالهجرة إلى الأرض المقدسة { وما يعبدون } أي على الاستمرار { من دون الله } الجامع لجميع معاني العظمة التي لا ينبغي العبادة لغيره { وهبنا } أي على ما لنا من العظمة { له } كما هو الشأن في كل كن ترك شيئاً لله { إسحاق } ولداً له لصلبه من زوجته العاقر العقيم بعد تجاوزها سن اليأس وأخذه هو في السن إلى حد لا يولد لمثله { ويعقوب } ولداً لإسحاق وخصهما بالذكر للزومهما محل إقامته وقيامهما بعد موته بخلافته فيه وأما إسماعيل عليه السلام فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام وإيحائه به تلك المشاعر العظام فأخروه بالذكر جاعلاً له أصلاً برأسه؛ ثم صرح بما وهب لأولاده جزاء على هجرته فقال: { وكلاًّ } أي منهما { جعلنا نبياً * } عالي المقدار، ويخبر بالأخبار كما جعلنا إبراهيم عليه السلام نبياً { ووهبنا لهم } كلهم { من رحمتنا } أي شيئاً عظيماً جداً، بالبركة في الأموال والأولاد وإجابة الدعاء، واللطف في القضاء وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة { وجعلنا لهم } بما لنا من العظمة { لسان صدق عليّاً } أي ذكراً صادقاً رفيع القدر جداً يحمدون به ويثنى عليهم من جميع أهل الملل على كر الأعصار، ومر الليل والنهار، وعبر باللسان عما يوجد به، وفي ذلك ترغيب في الهجرة ثانياً بعد ما رغب فيها بقصة أهل الكهف أولاً، وأشار إليها بقوله في { سبحان } { وقل رب أدخلني مدخل صدق } [الإسراء: 80] الآية.