التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً
٦٦
أَوَلاَ يَذْكُرُ ٱلإِنسَٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً
٦٧
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَٱلشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً
٦٨
ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ عِتِيّاً
٦٩
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً
٧٠
وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
٧١
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تبين بذلك وبما ذكر في هاتين السورتين مما سألوا عنه ومن غيره شمولُ علمه وتمام قدرته لا سيما في إيجاد البشر تارة من التراب، وتارة من ذكر وأنثى في حكم العدم، وتارة من أنثى بلا ذكر، وثبت ذلك كله، فانكشفت الشبه، وتضاءلت موجبات المراء، وانقمعت مخيلات الفتن، عجب منها في إنكارهم البعث وهم يشاهدون ما ذكر من قدرته وعلمه، عاطفاً على التعجب في قولهم { وقالوا ءاذا كنا } تعجيباً أشد من ذلك فقال: { ويقول } بلفظ المضارع المؤذن بالتجدد بعد هذا البيان المقتضي حتماً لاعتقاده البعث فضلاً عن إنكار مرة من المرات، ليخبر عنها بصيغة الماضي، فكيف بالمداومة على ذلك المشار إليها بصيغة المضارع؛ وعبر بالمفرد وإن كان للجنس لأن الإنكار على الواحد يستلزم الإنكار على المتعدد فقال: { الإنسان } أي الذي خلقناه ولم يك شيئاً، مع ما فضلناه به من العقل، ونصبنا له من الدلائل، فشغله الإنس بنفسه عن التأمل في كمال ربه منكراً مستبعداً: { أءذا ما مت } ثم دل على شدة استبعاده لذلك بقوله مخلصاً للام الابتداء إلى التوكيد سالخاً لها عما من شأنها الدلالة عليه من الحال لتجامع ما يخلص للاستقبال: { لسوف أخرج } أي يخرجني مخرج { حياً * } أي بعد طول الرقاد، وتفتت الأجزاء والمواد، وجاء بهذه التأكيدات لأن ما بعد الموت وقت كون الحياة منكرة على زعمه، والعامل في { إذا } فعل من معنى { أخرج } لا هو، لمنع لام الابتداء لعمله فيما قبله؛ ثم قابل إنكاره الباطل بإنكار هو الحق فقال عطفاً على يقول أو على ما تقديره: ألا يذكر ما لنا من تمام القدرة بخلق ما هو أكبر من ذلك من جميع الأكوان: { أو لا يذكر } بإسكان الذال على قراءة نافع وابن عامر وعاصم إشارة إلى أنه أدنى ذكر من هذا يرشده إلى الحق، وقراءة الباقين بفتح الذال والكاف وتشديدهما يشير إلى أنه - لاستغراقه في الغفلة - يحتاج إلى تأمل شديد { الإنسان } أي الآنس بنفسه، المجترىء بهذا الإنكار على ربه وقوفاً مع نفسه { أنا خلقناه } وأشار الجار إلى سبقه بالعدم فقال: { من قبل } أي من قبل جدله هذا أي بما لنا من القدرة والعظمة.
ولما كان المقام لتحقيره بكونه عدماً، أعدم من التعبير عن ذلك ما أمكن إعدامه، وهو النون، لتناسب العبارة المعتبر فقال: { ولم يك شيئاً * } أصلاً، وإنا بمقتضى ذلك قادرون على إعادته فلا ينكر ذلك.
ولما كان كلام الكافر صورته صورة استفهام، وهو جحد في الحقيقة وإنكار، وكان إنكار المهدَّد لشيء يقتدر عليه المهدد سبباً لأن يحققه لما مقسماً عليه، قال تعالى مجيباً عن إنكاره مؤذناً بالغضب عليهم بالإعراض عنهم مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم تفخيماً لشأنه وتعظيماً لأمره: { فوربك } المحسن إليك بالانتقام منهم.
ولما كان الإنكار للبعث يلزم منه الاحتقار، أتى بنون العظمة، استمر في هذا التحلي بهذا المظهر إلى آخر وصف هذا اليوم فقال: { لنحشرنهم } بعد البعث { والشياطين } الذين يضلونهم بجعل كل واحد منهم مع قرينه الذي أضله، في سلسلة { ثم لنحضرنهم } بعد طول الوقوف { حول جهنم } التي هم بها مكذبون، يحيطون بها لضيق رأسها وبعد قعرها، حال كونهم { جثياً * } على الركب من هول المطلع وشدة الذل، مستوقرين تهيؤوا للمبادرة إلى امتثال الأوامر { ثم لننزعن } أي لنأخذن أخذاً بشدة وعنف { من كل شيعة } أي فرقة مرتبطة بمذهب واحد.
ولما كان التقدير: لننزعن أغناهم، وهم الذين إذا نظرت إلى كل واحد منهم بخصوصه حكمت بأنه أغنى الناس، علم أنهم بحيث يحتاج إلى السؤال عنهم لإشكال أمرهم فقال: { أيهم أشد على الرحمن } الذي غمرهم بالإحسان { عتياً * } أي تكبراً متجاوزاً للحد، انتزاعاً يعلم به أهل الموقف أنه أقل من القليل، وأوهى أمراً من القتيل، وأن له سبحانه - مع صفة الرحمة التي غمرهم إحسانها وبرها - صفات أخرى من الجلال والكبرياء والجبروت والانتقام.
ولما تقدم ما هو في صورة الاستفهام، أتبعه ما يزيل ما قد يقع بسببه من بعض الأوهام، فقال: { ثم } وعزتنا! { لنحن } لشمول علمنا وكمال قدرتنا وعظمتنا { أعلم } من كل عالم { بالذين هم } لظواهرهم وبواطنهم { أولى بها } أي جهنم { صلياً * } وبالذين هم أولى بكل طبقة من دركاتها من جميع الخلق من المنتزعين وغيرهم، فلا يظن بنا أنا نضع أحداً في غير دركته أو غير طبقته من دركته؛ وعطف هذه الجمل بأداة البعد مقرونة بنون العظمة لبعد مراتبها وتصاعدها في ذرى العليا وترقيها، تهويلاً للمقام وتعظيماً للأمر لاستبعادهم له، على أنه يمكن أن تكون الحروف الثلاثة للترتيب الزماني، وهو في الأولين واضح، وأما في الثالث فلأن العلم كناية عن الإصلاء، لأن من علم ذنب عدوه - وهو قادر - عذبه، فكأنه قيل: لنصلين كلاًّ منهم النار على حسب استحقاقه لأنا أعلم بأولويته لذلك.
ولما كانوا بهذا الإعلام، المؤكد بالإقسام، من ذي الجلال والإكرام، جديرين بإصغاء الأفهام، إلى ما يوجه إليها من الكلام، التفت إلى مقام الخطاب، إفهاماً للعموم فقال: { وإن } أي وما { منكم } أيها الناس أحد { إلا واردها } أي داخل جهنم؛ ثم استأنف قوله: { كان } هذا الورود؛ ولما كان المعنى أنه لا بد من من إيقاعه، أكده غاية التأكيد فأتى بأداة الوجوب فقال: { على ربك } الموجد لك المحسن إليك بإنجاء أمتك لأجلك { حتماً } أي واجباً مقطوعاً به { مقضياً * } لا بد من إيقاعه؛ قال الرازي في اللوامع: ما من مؤمن - إلا الأنبياء - إلا وقد تلطخ بخلق سوء ولا ينال السعادة الحقيقية إلا بعد تنقيته، وتخليصه من ذلك إنما يكون بالنار.