التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً
٨٥
وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً
٨٦
لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٨٧
وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً
٨٨
لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً
٨٩
تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً
٩٠
أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً
٩١
وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً
٩٢
إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً
٩٣
-مريم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما بين مآل حال الكافرين في آلهتهم ودليله، أتبعه بوقته فقال: { يوم } أي يكفرون بعبادتهم يوم { نحشر المتقين } أي العريقين في هذا الوصف؛ ولما تقدمت سورة النعم العامة النحل، وأتبعت سورة النعم الخاصة بالمؤمنين وبعض العامة، مثل { ولقد كرمنا بني آدم } [الإسراء: 70]، ثم سورتي الخاصة بالصالحين الكهف وهذه، قال: { إلى الرحمن } فيدخلهم دار الرضوان، فذكر الاسم الدال على عموم الرحمة، وكرره في هذه السورة تكريراً دل على ما فهمته، وربما أيد ذلك افتتاح النحل بنعمة البيان على هذا الإنسان التي عبر عنها بالخصيم، وختام هذه بالقوم اللد من حيث رد مقطع هذه التي كانت بالنظر إلى النعم شيئاً واحداً على مطلعها { وفداً * } أي القادمين في إسراع ورفعة وعلى، كما تقدم الوفود على الملوك، فيكونون في الضيافة والكرامة.
ولما ذكر ما يدل على كرامة أوليائه، أتبعه ما يدل على إهانة أعدائه فقال: { ونسوق المجرمين } أي بالكفر وغيره من المعصية، كالبهائم سوقاً عنيفاً مزعجاً حثيثاً { إلى جهنم } بسطوة المنتقم الجبار { ورداً * } أي عطاشاً { لا يملكون الشفاعة } أي لا يملك أحد من القسمين أن يَشفَع ولا أن يشفَّع فيه { إلا من اتخذ } أي كلف نفسه واجتهد في أن أخذ { عند الرحمن عهداً * } بما وفقه له من الإيمان والطاعة التي وعده عليها أن يشفع أو أن يشفع فيه؛ فالآية من الاحتباك: ذكر الرحمن أولاً دليلاً على المنتقم ثانياً، وجهنم ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً.
ولما أبطل مطلق الشفعاء، وكان الولد أقرب شفيع، وكانوا قد ادعوا له ولداً، أبطل دعواهم فيه لينتفي كل شفيع خاص وعام، فينتفي كل عز راموه بشفاعة آلهتهم وغيرها. فقال عاطفاً على قوله: { واتخذوا من دون الله آلهة } موجباً منهم: { وقالوا } أي الكفرة { اتخذ الرحمن } أي الذي لا منعم غيره، فكل أحد محتاج إليه وهو غني عن كل أحد { ولداً * } قالت اليهود: عزير، والنصارى: المسيح، والمشركون: الملائكة، مع قيام الأدلة على استحالته عليه سبحانه؛ ثم استأنف الالتفات إلى خطابهم بأشد الإنكار، إيماء إلى تناهي الغضب فقال: { لقد } أي وعزتي! لقد { جئتم شيئاً إدّاً * } أي عظيماً ثقيلاً منكراً؛ ثم بين ثقله بقوله: { تكاد السماوات } على إحكامها، مع بعدها من أصحاب هذا القول { يتفطرن } أي يأخذن في الانشقاق { منه } أي من هذا الشيء الإدّ { وتنشق الأرض } على تحتها شقاً نافذاً واسعاً { وتخر } أي تسقط سريعاً { الجبال } على صلابتها { هداً * } كما ينفسخ السقف تحت ما لا يحتمله من الجسم الثقيل، لأجل { أن ادعوا } أي سموا { للرحمن } الذي كل ما سواه نعمة منه { ولداً * } هذا المفعول الثاني، وحذف الأول لإرادة العموم { وما ينبغي } أي ما يصح ولا يتصور { للرحمن أن يتخذ ولداً * } لأنه غير محتاج إلى الولد بوجه، ومع ذلك فهو محال، لأن الولد لا يكون إلا مجانساً للوالد، ولا شيء من النعم بمجانس للمنعم المطلق الموجد لكل ما سواه، فمن دعا له ولداً قد جعله كبعض خلقه، وأخرجه عن استحقاق هذا الاسم، ثم أقام الدليل على غناه عن ذلك واستحالته عليه، تحقيقاً لوحدانيته، وبياناً لرحمانيته، فهدم بذلك الكفر بمطلق الشريك بعد أن هدم الكفر بخصوص الولد فقال: { إن } أي ما { كل من } أي شيء من العقلاء، فهو نكرة موصوفة لوقوعها بعد كل وقوعها بعد رب { في السماوات والأرض } الذين ادعوا أنهم ولد وغيرهم { إلا }. ولما كان من العبد من يعصي على سيده، عبر بالإتيان فقال: { ءاتي الرحمن } العام بالإحسان، أي منقاد له طوعاً أو كرهاً في كل حالة وكل وقت { عبداً * } مسخراً مقهوراً خائفاً راجياً، فكيف يكون العبد ابناً أو شريكاً؟ فدلت الآية على التنافي بين العبودية والولدية، فهي من الدليل على عتق الولد والوالد إذا اشتريا.