نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما تم أمر القبلة وما استتبعه وختم بشريعة الحج المكتوبة على الناس عامة الأمر
لهم بها باني البيت إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن أمر الله سبحانه وتعالى بقوله إذ قام
المقام: يا أيها الناس! كتب عليكم الحج فحجوا، فأجابه من علم الله سبحانه وتعالى أنه
يحج ثم حجت الأنبياء من بني إسرائيل بن إبراهيم عليهما السلام ثم أخفاها أهل الكتاب
فيما أخفوه من كتابهم حسداً للعرب وختمت آية الحج بعليم رجع إلى أمر الكاتمين
الذين يكتمون الحق وهم يعلمون، وأعظم ما كتموه أمر هذا الكتاب الذي هو الهدى
المفتتح به السورة، ولما بين جزاءهم استثنى منهم التائبين مبيناً لشرائط التوبة الثلاثة
فقال { إلا الذين تابوا } بالندم على ارتكاب الذنب { وأصلحوا } بالعزم على عدم العود
{ وبينوا } ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع.
ولما كان الإنسان يحب ما كان بسبب منه رغبهم في المتاب بعد توبتهم سبباً
لتوبته ورحمته وإن كان ذلك كله مَنّاً منه في نفس الأمر فقال معبراً بالفاء: { فأولئك }
العالو الرتبة { أتوب عليهم } أي أقبل توبتهم فأحفظهم بما يشعر به مثال الفعل الدائم
فيما وفقتهم لابتدائه، وفي الربط بالفاء إشارة إلى إسراع استنقاذ توبة الله عليهم من نار
الخوف والندم رحمة منه لهم برفعهم إلى موطن الإنس، لأن نار الخوف في الدنيا
للمقترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة، من لم يحترق بنار
المجاهدة أحرقته نار الخوف، فمن لم يحترق بنار الخوف أحرقته نار السطوة - أفاده
الحرالي. ولما كان من شأن الإنسان معاودة الذنوب لصفة النسيان ختم الآية بما دل
على أن التقدير: فإني أحب التوابين فقال: { وأنا التواب } أي مرة بعد مرة لمن كر على
الذنب ثم راجع التوبة كرة إثر كرة { الرحيم * } لمن فعل ما يرضيني.
ولما لعن الكاتمين واستثنى منهم التائبين ذكر المصرّين معبراً عن كتمانهم بالكفر
لتعم العبارة كل كفر فقال: { إن الذين كفروا } أي بهذا الكتمان وغيره { وماتوا وهم
كفار } قال الحرالي: ففي إشعاره يسر توبة الكافرين وعسر توبة المنافقين من حيث
صرح بذكر توبة الكاتم وتجاوز في الذكر توبة الكافر، فكان الذين كفروا يتوبون إلا
الأقل والذين يكتمون يتمادون إلا الأقل، فلذلك وقع الاستثناء في الكاتم والتخصيص
من الكافر - انتهى.
ولما كان الموت على شيء دالاً على أصل الجبلة فالميت كافراً مجبول جبلة شر
بيّن سبحانه وتعالى أنه مستحق في نفس الأمر لكل خزي لذلك لا لسبب جدده، فمن
وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، لأنه سبحانه وتعالى لا
يسأل عما يفعل، فأسقط فاء السبب وعبر عنهم بأداة البعد إشارة إلى طردهم فقال:
{ أولئك } الذين هم في غاية السفول { عليهم لعنة الله } أي طرد الملك الذي لا ملك
سواه وإبعاده، ثم بين اللاعنين في التي قبلها فقال { والملائكة والناس أجمعين * } أي
هم أهل لذلك وكل أحد يلعن الظالم وأظلم الظالمين الكافر { خالدين فيها } أي اللعنة.
ولما كان اللعن دالاً على العذاب صرح به فقال: { لا يخفف عنهم العذاب }
لاستعلاء اللعن عليهم وإحاطته بهم. وقال الحرالي: ذكر وصف العذاب بذكر ما لزمهم
من اللعنة ليجمع لهم بين العقابين: عقاباً من الوصف وعقاباً من الفعل، كما يكون لمن
يقابله نعيم ورضى - انتهى. { ولا هم ينظرون * } قال الحرالي: من النظرة وهو التأخير
المرتقب نجازه فالمعنى أنهم لا يمهلون من ممهل ما أصلاً كما يمهلون في الدنيا - بل
يقع عليهم العذاب حال فراقهم للحياة ثم لا يخفف عنهم. قال الحرالي: ففيه إشعار
بطائفة أي من عصاة المؤمنين يؤخر عذابهم، وفي مقابلة علم الجزاء بأحوال أهل الدنيا
تصنيفهم بأصناف في اقتراف السوء، فمن داومه داومه العذاب ومن أخره وقتاً ما في
دنياه أخر عنه العذاب، ومن تزايد فيه تزايد عذابه، وذلك لكون الدنيا مزرعة الآخرة وأن
الجزاء بحسب الوصف { { سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم * } [الأنعام: 136] انتهى.
ولما أفاض عليهم سبحانه وتعالى ما أفاض من بحار الحجاج المفرقة بالأمواج
وقرر ما أراد من شرائع الإسلام على وجه الإتقان والإحكام وأرشد هذا السياق المذكور
فيه ثواب المطيع وعقاب العاصي إلى أن التقدير: فإلهكم إله واحد لا شريك له يدافعه
عما يريد لا إله إلا هو المنتقم من أعدائه العظيم في كبريائه، عطف عليه مكرراً الزاجر
لكل منافق وكافر ومذكراً بالعاطف لكل موافق مؤالف قوله تعالى: { وإلهكم } ولما كان
المراد أن الوحدة معتبرة في نفس الأمر في الإله الحق، فلا يصح أصلاً أن يكون الإله
الحق منقسماً بالنوع ولا بالشخص ولا بالوصف ولا بالفعل ولا بغير ذلك بوجه من
الوجوه أعاد لفظ الإله فقال: { إله واحد } أي لا ينقسم بوجه من الوجوه لا بمجانسة
ولا بغيرها وهو مع ذلك { لا إله إلا هو } فهذا تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته فلا
يصح بوجه ولا يمكن في عقل أن يصلح للإلهية غيره أصلاً فلا يستحق العبادة إلا هو
لأنه { الرحمن } أي العام الرحمة بالنعم الزائلة لأوليائه وأعدائه { الرحيم * } أي
المخصص بالنعم الباقية لأوليائه، فثبت بالتفرد بالألوهية أنه حائز بجميع العظمة وبيده
مجامع الكبرياء والقهر، وبوصفي الرحمة أنه مفيض لجلائل النعم ودقائقها فكل ما سواه
إما نعمة أو منعم عليه، فهو المخشي سطوته المرجو رحمته يغفر لمن يشاء ويلعن من
كفر ويخلده في العذاب من غير أن يقدر غيره أن يعترض عليه في شيء من ذلك؛ ولا
يبعد عندي وإن بعد المدى أن تكون الواو في قوله { وإلهكم } عاطفة على قوله في
أوائل السورة { { وهو بكل شيء عليم } [البقرة: 29] قبل قوله { { وإذ قال ربك للملائكة
إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30] فإن التوحيد هو المقصود بالذات وعنه تنشأ
جميع العبادات، فلما قال أولاً { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [البقرة: 21] أتبعه في قوله
{ { الذي خلقكم } [البقرة: 21] إلى آخره بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة، فلما قام
الدليل قال: { { فلا تجعلوا لله أنداداً } [البقرة: 22] إعلاماً بأنه لا شريك له في العبادة
كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق، ثم أتبعه بما يليق لذلك المقام مما تقدم
التنبيه عليه، ثم رجع إليه قائلاً ثانياً { { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [البقرة:
28] إلى آخرها فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط، فلما تقرر على وجه لا
مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة لما ذكر فيها
من غير ذلك من المهمات إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرين وذكر ما
أعد لكل من الجزاء فأتبع ذلك هذه الآية عاطفاً لها على ما ذكرته على وجه أصرح مما
تقدم في إثبات التوحيد بياناً لما هو الحق وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا الذين
قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين وعقوبة بعض العاصين بعض أتباعهم، فإنه
واحد لا كفؤ له بل ولا مداني فلا مانع لنفوذ أمره؛ ولا يستنكر تجويز هذا العطف لأنه
جرت عادة البلغاء أن أحدهم إذا أراد إقامة الحج على شيء لأمر يرتبه عليه أن يبدأ
بدليل كاف ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر
لتأنس به النفوس وتسرّ به القلوب، وربما كان الدليل طويل الذيول كثير الشعب، فيشرح
كل ما يحتاج إليه من ذيوله وما يستتبعه من شعبه، فإذا استوفى ذلك ورأى أن الخصم لم
يصل إلى غاية الإذعان أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفاً له على الوجوه الأول تذكيراً
بما ليس بمستنكر ذلك في مجاري عاداتهم ومباني خطاباتهم؛ ومن تأمل مناظرات
الباقلاني وأضرابه من أولي الحفظ الواسع والتبحر في العلم علم ذلك وقال الحرالي:
ولما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق، والتعريف بحق الحق على الخلق،
وإظهار مزايا من اصطفاه الله تعالى ممن شملهم أصل الإيمان من ملائكته وأنبيائه ورسله
ومن يلحق بهم من أهل ولايتهم، وإظهار شواهد ذلك منهم وإقامة الحجة بذلك على
من دونهم في إلزامهم أتباعهم، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات كان النافع لهم إنما
هو الوحدة، فلما أظهر لهم تعالى مرجعهم إلى وحدة أبوة آدم عليه الصلاة والسلام في
جمع الذرية ووحدة أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جمع الإسلام ووحدة أحمدية
محمد صلى الله عليه وسلم في جمع الدين فاتضح لهم عيب الشتات والتفرق وتحقق لهم شاهد النفع في
الجمع إلى وحدات كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر
الحق وفي إفهام ذلك وحدات ما يظن في ظاهر الوحدات الظاهرة من وحدة الروح
ووحدة النفس والعقل فقال تعالى عطفاً على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة وما
أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة: { وإلهكم إله واحد } فإذا قبح الشتات مع وحدة
الأب الوالد فكيف به مع وحدة الأب المدّين! فكيف به مع وحدة النبي المكمل! فكيف
به مع وحدة الإله الذي هو الرحمن الذي شمل خلقه رحمانية! الرحيم الذي اختص
أولياءه وأصفياءه عناية فجمعهم بوحدته التي هي قائم كل وحدة دونه! فجميع أسمائه لها
وحدة تنتهي وحدتها إلى وحدة الإله الذي انتهى إليه الإله وهو تعبد الظاهر لإلجاء
المتعبد إليه في كل حاجاته وإقاماته الظاهرة والباطنة، ولا أتم من وحدة ما لا يتصوره
العقل ولا يدركه الحس في علو وحدة الغيب الذي لا يبدو فيه ذات فيكون لها أو فيها
كميات ولا كيفيات؛ ثم قال: وقد صح بالتجربة أن الراحة في حصبة الواحد وأن التعب
في اتباع العدد لاختصاص كل واحد بقصد في التابع يتشاكس عليه لذلك حال اتباعهم،
فكان أعظم دعوة إلى جمع الخلق دعوتهم إلى جمع توحيد الإلهية انتظاماً بما دعوا إليه
من الاجتماع في اسم الربوبية في قوله تعالى متقدماً { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } }
[البقرة: 21] فإعلاء الخطاب من رتبة الربوبية إلى رتبة هذه الدعوة بالإلهية لتعلو من
هذا الحد إلى الدعوة إلى الله الأحد الذي أحديته مركوزة في كافة فطر الخلق وجبلاتهم
حين لم يقع الشرك فيه بوجه وإنما وقع في رتبة الإلهية، فكان هذا أوسط الدعوة
بالاجتماع في وحدة الإلهية وفي إضافة اسم الإله إليهم أتم تنزل بمقدار معقولهم من
تعبدهم الذي هو تألّههم؛ ولما كان في الإلهية دعوى كثرة توهم الضلال المبين أتبع
ذلك بكلمة التوحيد بناء على اسمه المضمر في باطن ظاهر الإلهية فقال تعالى: { لا إله
إلا هو } رداً على إضمار ما في الأول ولم يذكر اسمه المظهر ليكون للدعوة إليه رتبة
عالية تكون هذه متوقلاً إليها، ولما كان هذا التوحيد الإلهي أمر غيب من الإله أظهره
سبحانه وتعالى بمظهر الرحمانية المحيطة الشاملة والرحيمية الاختصاصية لما عند الخلق
من شاهد ذلك فيما يجدونه من أثر الرحمانية في دنياهم وآثارهم وما يجدون من آثار
الرحيمية في اختصاصهم المزية في تضاعف رحمته، فكان في مجموع هذه الآية أعظمية
من غيب الإلهية إلى تمام اختصاص الرحيمية، فلذلك كانت هذه الآية مع آية الإحاطة
في أول آل عمران الجامعة لمقابلة ما في هذه الآية من خصوص الرحيمية مع خصوص
مقابلها من وصف الانتقام الظاهر عن وصف العزة الذي أبداه قوله سبحانه وتعالى:
{ { والله عزيز ذو انتقام } [آل عمران: 4] فكانت هذه الآية لذلك مع { { الم * الله لا إله
إلا هو الحي القيوم * } [آل عمران: 1-2] اسم الله الأعظم المحيط بالغيب والشهادة
جمعاً للرحمة والنقمة في الظاهر وإحاطة عظمة في الباطن، فكان هذا الحد من علو
الخطاب ابتداء رفع الخلق إلى التعلق باسم الله الأعظم الذي يرفعهم عن سفل تقيدهم
بأنفسهم المحقّرة إظهاراً لمبدأ العناية بهذه الأمة الخاتمة - انتهى.
ولما كان هذا المقام لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة نصب الأدلة على ذلك
في هذه الآية الثالثة بأبسط مما في الآية الثانية كما كانت الثانية أبسط من الأولى وأجلى
تبصيراً للجهال وتذكيراً للعلماء؛ فكانت هذه الآية تفصيلاً لتينك الآيتين السابقتين ولم
تدع حاجة إلى مثل هذه التفصيل في آية آل عمران، لأن معظم المراد بها الدلالة على
شمول القدرة وأما هذه فدليل على التفرد، فكان لا بد من ذكر ما ربما أضيف إلى أسبابه
القريبة تنبيهاً على أنه لا شريك له في شيء من ذلك وأن الكل بخلقه وإن أقام لذلك
أسباباً ظاهرية فقال تعالى { إن في خلق السماوات والأرض } أي واختلافهما فإن خلق ما
ذكر في الآية من نعمته على عباده كما ذكر في أول السورة، ثم ذكر ما ينشأ عنهما
فقال: { واختلاف } وهو افتعال من الخلف، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر
من الأمور { الليل } قدمه لأنه الأصل والأقدم { { وآية لهم الّليل } [يس: 37] { والنهار }
وخلقهما، فالآية من الاحتباك، ذكر الخلق أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والاختلاف ثانياً
على حذفه أولاً. وقال الحرالي: ولما كان من سنة الله أن من دعاه إليه وإلى رسله
بشاهد خرق عادة في خلق أو أمر عاجله بالعقوبة في الدنيا وجدد بعده أمة أخرى كما
قال سبحانه وتعالى: { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } [الإسراء:
59] وكانت هذه الأمة خاتمة ليس بعدها أمة غيرها أعفاها ربها من احتياجها إلى خرق
العوائد، قال عليه الصلاة والسلام " "ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله أمن عليه
البشر، وإنما كان الذي آتاني الله وحياً أوحاه الله سبحانه وتعالى إليّ، فأرجو أن أكون
أكثرهم تابعاً" فكان أمر الاعتبار أعم إجابة وأسمح مخالفة وكفاها بما قد أظهره لها في
خلقه بالإبداء والتسخير من الشواهد، ليكونوا علماء منقادين لروح العلم لا لسلطان
القهر، فيكون ذلك من مزاياهم على غيرهم، ولم يجبها إلى ما سألته من ذلك، فلما
وصل تعالى بدعوة الربوبية ذِكر الخلق والرزق وذكر الأرض بأنها فراش والسماء بأنها
بناء على عادة العرب في رتبة حس ظاهر أعلاهم في هذا الخطاب بإيراد آياته وشواهده
على علو رتبة معنى معقول فوق رتبة الأمر المحسوس السابق فقال: { إن في خلق
السماوات والأرض } خطاباً مع من له نظر عقلي يزيد على نظر الحس باعتبار السماوات
أفلاكها وعددها بشواهد نجومها حتى يتعرف أنها سماوات معدودة، وذلك مما يظهر
موقعه عند من له اعتبار في مخلوق السماوات؛ ولما لم يكن للأرضين شواهد محسوسة
بعددها كما في السماوات لم يجر ذكرها في القرآن إلا مفردة وجاء ذكر السماوات معددة
لأهل النظر العقلي ومفردة لأهل النظر الحسي، وأيسر معتبر ما بين السماوات والأرض
في مقابلة حظيهما في كون السماوات في حد من العلو والصفاء والنورانية والحركة
والأرض في مقابل ذلك من السفل والكثافة والظلمانية والسكون، فيقع الاعتبار بحصول
مشهود التعاون من مشهود التقابل، وذلك مما يعجز الخلق فيعلمون أنه من أمر الحق،
لأن الخلق إنما يقع لهم التعاون بالمتناسب لا بالمتقابل، فمن آلته الماء مثلاً تفسد عليه
النار، ومن آلته النار يفسد عليه الماء، والحق سبحانه وتعالى أقام للخلق والموجودات
والموالد آحاداً مجتمعة قد قهر فيها متنافرات موجودات الأركان وموجود خلق السماء
والأرض المشهود تقابلهما، فما وقع اجتماع النار بالماء على تقابل ما بين الحار
والبارد، واجتماع الهواء بالأرض على تقابل ما بين الكثيف واللطيف، واجتماع الكل في
شيء واحد من جسم واحد وعضو واحد حتى في جزء واحد من أدق أجزائه إلا بأمر
يعجز عنه الخلق ولا يقدر عليه إلا الحق الذي يحار فيه الخلق، فهو إذن إلههم الذي هو
إله واحد، آثاره موجودة في أنفسهم، وشواهده مبصرة بأعينهم وحقائق تلك الشواهد
بادية لعقولهم، فكأنه سبحانه وتعالى أقرأهم ذكره الحكيم المرئي لأعينهم كشفاًً لغطاء
أعينهم ليتميزوا عن الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره. ولما ذكر سبحانه وتعالى
خلق متقابل العلو والسفل في ذكر السماوات والأرض نظم بها اختلاف الأفقين اللذين
فيهما ظهور مختلفي الليل والنهار ليتريع اعتبارهم بين اعتبار الأعلى والأسفل والمشرق
والمغرب فيقع شواهد الإحاطة بهم عليهم في توحيد ربهم وإرجاع ذلك إليه دون أن
يعزي ذلك إلى شيء من دونه مما هو داخل في حصر موجود هذه الإحاطة من المحيط
الأعلى والمحيط الأسفل والمحيط بالجوانب كلها من ملبس الآفاق من الليل والنهار
خطابَ إجمال يناسب مورد السورة التي موضوعها إجمالات ما يتفسر فيها وفي سائر
القرآن من حيث إنها فسطاطه وسنامه - انتهى.
ولما ذكر تعالى ما أنشأه سير الكواكب في ساحة الفلك أتبعه سير الفلك في باحة
البحر فقال: { والفلك } وهو ما عظم من السفن في مقابلة القارب وهو المستخف منها.
قال الحرالي: استوى واحده وجمعه، حركات الواحد أولى في الضمير وحركات الجمع
ثوان في الضمير من حيث إن الواحد أول والجمع ثان مكسر انتهى. ولما أراد هنا
الجمع لأنه أدل على القدرة وصف بأداة التأنيث فقال { التي تجري } بتقدير الله، وحقق
الأمر بقوله: { في البحر } أسند الجري إليها ومن المعلوم أنه لا جري لها حقيقة ولا
فعل بوجه ترقية إلى اعتقاد مثل ذلك في النجوم إشارة إلى أنه لا فعل لها ولا تدبير كما
يعتقد بعض الفلاسفة. وقال الحرالي: ولما ذكر سبحانه وتعالى جملة الخلق وجملة
الاختلاف في الوجهين وصل بذلك إحاطة البحر بالأرض وتخلل البحار فيها لتوصل
المنافع المحمولة في الفلك مما يوصل من منافع المشرق للمغرب ومنافع المغرب
للمشرق ومنافع الشمال للجنوب وبالعكس، فما حملت جارية شيئاً ينتفع به إلا قد
تضمن ذكره مبهم كلمة { ما } في قوله تعالى: { بما ينفع الناس } وذكرهم باسم الناس
الذي هو أول من يقع فيه الاجتماع والتعاون والتبصر بوجه ما أدنى ذلك في منافع الدنيا
الذي هو شاهد هذا القول - انتهى.
ولما ذكر نفع البحر بالسفن ذكر من نفعه ما هو أعم من ذلك فقال: { وما أنزل
الله } الذي له العظمة التامة { من السماء } أي جهتها باجتذاب السحاب له. ولما كان
النازل منها على أنواع وكان السياق للاستعطاف إلى رفع الخلاف ذكر ما هو سبب الحياة
فقال: { من ماء فأحيا به الأرض } بما ينبت منها ولما كان الإحياء يستغرق الزمن
المتعقب للموت نفى الجار فقال: { بعد موتها } بعدمه.
ولما ذكر حياة الأرض بالماء أشار إلى أن حياة كل ذي روح به فقال { وبث } من
البث وهو تفرقة أحاد مستكثرة في جهات مختلفة { فيها } بالخضب { من كل دابة } من
الدبيب وهو الحركة بالنفس قال الحرالي: أبهم تعالى أمر الخلق والاختلاف والإجراء
فلم يسنده إلى اسم من أسمائه يظهره، وأسند إنزال الماء من السماء إلى اسمه العظيم
الذي هو الله لموقع ظهور القهر على الخلق في استدرار أرزاق الماء واستجداده وقتاً بعد
وقت بخلاف مستمر ما أبهم من خلق السماوات والأرض الدائم على حالة واختلاف
الليل والنهار المستمر على وجهة واحتيال إجراء الفلك الماضي على حكم عادته، فأظهر
اسمه فيما يشهد به عليهم ضرورتهم إليه في كل حول ليتوجهوا في العبادة إلى علو
المحل الذي منه ينزل الماء فينقلهم بذلك من عبادة ما في الأرض إلى عبادة من في
السماء { { ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض } [الملك: 16] وقال عليه
الصلاة والسلام للأمة: "أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة" فأذن
أدنى الإيمان التوجه إلى عبادة من في السماء ترقياً إلى علو المستوى على العرش إلى
غيب الموجود في أسرار القلوب، فكان في هذه التوطئة توجيه الخلق إلى الإله الذي
ينزل الماء من السماء وهو الله الذي لم يشرك به أحد سواه ليكون ذلك توطئة لتوحيد
الإله، ولذلك ذكر تعالى آية الإلهية التي هي الإحياء، والحياة كل خروج عن الجمادية
من حيث إن معنى الحياة في الحقيقة إنما هو تكامل في الناقص، فالمهتزّ حي بالإضافة
إلى الجماد ترقياً إلى ما فوق ذلك من رتب الحياة من نحو حياة الحيوان ودواب
الأرض، فلذلك ذكر تعالى الإحياءين بالمعنى، وأظهر الاسم مع الأرض لظهوره في
الحيوان، فأظهر حيث خفي عن الخلق، ولم يذكره حيث هو ظاهر للخلق، فنبههم على
الاعتبارين إنزال الماء الذي لهم منه شراب ومنه شجر وبه حياة الحيوان ومنه مرعاهم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى بث ما هو السبب للنبات المسبب عن الماء ذكر بث ما
هو سبب للسحاب السبب للمطر السبب للحياة فقال تعالى: { وتصريف الرياح } أي تارة
صباً وأخرى دبوراً ومرة شمالاً وكرة جنوباً، والتصريف إجراء المصرف بمقتضى الحكم
عليه، والريح متحرك الهوى في الأقطار { والسحاب } وهو المتراكم في جهة العلو من
جوهر ما بين الماء والهواء المنسحب في الجو { المسخر } أي بها، من التسخير وهو
إجراء الشيء على مقتضى غرض ما سخر له { بين السماء والأرض } لا يهوى إلى جهة
السفل مع ثقله بحمله بخار الماء، كما تهوى بقية الأجرام العالية حيث لم يكن لها
ممسك محسوس ولا ينقشع مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة: فالكثيف يقتضي النزول
واللطيف يقتضي الصعود، والمتوسط يقتضي الانقشاع { لآيات } وقال الحرالي: لما ذكر
تعالى الأعلى والأسفل ومطلع الليل والنهار من الجانبين وإنزال الماء أهواءً ذكر ما يملأ
ما بين ذلك من الرياح والسحب الذي هو ما بين حركة هوائية إلى استنارة مائية إلى ما
يلزم ذلك من بوادي نيراته من نحو صواعقه وجملة أحداثه، فكان في هذا الخطاب
اكتفاء بأصول من مبادىء الاعتبار، فذكر السماء والأرض والآفاق وما بينهما من الرياح
والسحب والماء المنزل الذي جملته قوام الخلق في عاجل دنياهم، ليجعل لهم ذلك آية
على علو أمر وراءه ويكون كل وجه منه آية على أمر من أمر الله فيكون آيات، لتكون
السماء آية على علو أمر الله فيكون أعلى من الأعلى، وتكون الأرض آية على باطن أمر
الله فيكون أبطن من الأبطن، ويكون اختلاف الليل والنهار آية على نور بدوه وظلمة
غيبته مما وراء أمر الليل والنار، ويكون ما أنزل من الماء لإحياء الأرض وخلق الحيوان
آية ما ينزل من نور علمه على القلوب فتحيا بها حياة تكون حياة الظاهر آية عليه، ويكون
تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات على تصريف ما بين أرض
العبد الذي هو ظاهره وسمائه الذي هو باطنه، وتسخير بعضه لبعض ليكون ذلك آية على
علو الله على سمائه العلى في الحس وعلى سماء القلوب العلية في الوجدان؛ فلجملة
ذلك جعل تعالى صنوف هذه الاعتبارات { لآيات لقوم } وهم الذين يقومون في الأمر
حق القيام، ففيه إشعار بأن ذلك لا يناله من هو في سن الناس حتى يتنامى طبعه وفضيلة
عقله إلى أن يكون من قوم يقومون في الاعتبار قيام المنتهضين في أمور الدنيا، لأن
العرب عرفت استعمالها في القوم إنما هو لأجل النجدة والقوة حتى يقولون: قوم أو
نساء. تقابلاً بين المعنيين؛ وذكر تعالى العقل الذي هو نور من نوره هدى لمن أقامه من
حد تردد حال الناس إلى الاستضاءة بنوره في قراءة حروف كتابه الحكيم التي كتبها بيده
وأغنى الأميين بقراءة ما كتب لهم عن قراءة كتاب ما كتبه الخلق - انتهى؛ فقال:
{ يعقلون * } أي فيعلمون أن مصرف هذه الأمور على هذه الكيفيات المختلفة والوجوه
المحكمة فاعل مختار وهو قادر بما يشاهد من إحياء الأرض وغيرها مما هو أكبر منه
على بعث الموتى وغيره مما يريده وأنه مع ذلك كله واحد لا شريك له يمانعه العقلاء
من الناس، يعلمون ذلك بذلك فلا يتخذون أنداداً من دونه ولا يميلون عن جنابه الأعلى
إلى سواه، وقد اشتملت هذه الآية على جميع ما نقل البيهقي في كتاب الأسماء
والصفات عن الحليمي أنه مما يجب اعتقاده في الله سبحانه وتعالى وهو خمسة أشياء:
الأول إثباته سبحانه وتعالى لتقع به مفارقة التعطيل، والثاني وحدانيته لتقع به البراءة عن
الشرك - وهذان من قوله { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163] والثالث إثبات أنه ليس
بجوهر ولا عرض لتقع به البراءة من التشبيه وهذا من قوله { لا إله إلا هو } [البقرة: 163] لأن من لا يسد غيره مسده لا شبيه له، والرابع إثبات أن وجود كل ما
سواه كان بإبداعه له واختراعه إياه لتقع به البراءة من قول من يقول بالعلة والمعلول وهذا
من قوله { الرحمن الرحيم } [البقرة: 163] { إن في خلق السماوات والأرض } [البقرة: 164]، والخامس أنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء لتقع به البراءة من قوله
القائلين بالطبائع أو تدبير الكواكب أو تدبير الملائكة وهذا من قوله { وما أنزل الله من
السماء من ماء } [البقرة: 164] إلى آخرها قال البيهقي: كان أسماء الله سبحانه وتعالى
جده التي ورد بها الكتاب والسنة وأجمع العلماء على تسميته بها منقسمة بين العقائد
الخمس، فليلحق بكل واحدة منهن بعضها، وقد يكون منها ما يلتحق بمعنيين ويدخل
في بابين أو أكثر - انتهى. وسبب تكثير الأدلة أن عقول الناس متفاوتة، فجعل سبحانه
وتعالى العالم وهو الممكنات الموجودة وهي جملة ما سواه الدالة على وجوده وفعله
بالاختيار على قسمين: قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى في عرف أهل
الشرع الشهادة والخلق والملك، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى الغيب والأمر
والملكوت، والأول يدركه عامة الناس والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة
عن الوهم والوساوس، فالله سبحانه وتعالى بكمال عنايته ورأفته ورحمته جعل العالم
بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة وطرق متكثرة تعجز القوى البشرية
عن ضبطها يستدل بها على وحدانيته بعضها أوضح من بعض ليشترك الكل في المعرفة،
فيحصل لكل بقدر ما هيىء له، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه، فذلك والعياذ
بالله سبحانه وتعالى هو الشقي.