نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ثم بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه فقال:
{ فأزلهما }، قال الحرالي: من الزلل وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء
الذي لا مستمسك فيه كتزلل الزلال عن الورق وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على
الأوراق والأزهار، وأزالهما من الزوال وهو التنحية عن المكان أو المكانة وهو المصير
بناحية منه؛ { الشيطان } هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمي
الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين
مشتق كلفظ إنسان وملائكة { عنها } أي عن مواقعة الشجرة وعن كلمة تقتضي المجاوزة
عن سبب ثابت كقولهم: رميت عن القوس - انتهى.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما أو زوالهما عنها { فأخرجهما } أي فتسبب عن
إيقاعهما في الزلل الناشىء عن تلك المواقعة أنه أخرجهما { مما كانا فيه } من النعمة
العظيمة التي تجل عن الوصف. قال الحرالي: "في" كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة،
ثم قال: أنبأ الله عز وجل بما في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة بما أظهر من
أمر آدم عليه السلام وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستزلاله لآدم حسن
ظن من آدم بعباد الله مطلقاً حين قاسمهما على النصيحة، وفيه انتظام بوجه ما بتوقف
الملائكة في أمر خلق آدم فحذرت الملائكة إلى الغاية، فجاء من وراء حذرهما حمد
أظهره الله من آدم، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان على سبيل
سكن الجنة فرمى بهما عن سكنها بما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي اطلع
عليها. ثم قال: وحكمة ذلك أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه، إن الله عز وجل
يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع من
الإباء للشيطان، فكانت خطيئته في ذات نفسه أو بواسطة شيطان كما كانت مخالفة آدم،
فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه وعارضةً عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى مأمنه من
زوجه التي هي من أدنى خلقه فمحت التوبة الذنب العارض لآدم وأثبت الإصرار الإباء
النفساني للشيطان؛ وذكر الحق تعالى الإزلال منه باسمه الشيطان لا باسمه إبليس لما في
معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي ولما في معنى الإبلاس من قطع
الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة - انتهى.
ولما بين أنه غرهما فضرهما بين إهباط الغارّ والمغرور وبين أنه أنعم على المغرور
دون الغار مع ما سبق له من لزوم العبادة وطول التردد في الخدمة، وفي ذلك نفخيم
للنعمة استعطافاً إلى الإخلاص في العبادة فقال عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من نحو
أن يقال فتداركناهما بالرحمة وتلافينا خطأهما بالعفو لكونه عارضاً منهما بسبب خارج،
وأبّدنا تلافي الغار بشقائه لعصيانه بالضلال والإضلال عن عمد فكان مغضوباً عليه
{ وقلنا } أي له وللمغرور: { اهبطوا } وفي ذلك لطف لذريته بالتنفير من الخطأ
والترهيب الشديد من جريرته والترغيب العظيم على تقدير الوقوع فيه في التوبة والهبوط.
قال الحرالي: سعى في درك والدرك مَا يكون نازلاً عن مستوى، فكأنه أمسك
حقيقته - أي آدم - في حياطته تعالى وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من
أمر توبته؛ وأهبط صورته ليظهر في ذلك فرق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس على ما
أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتاً إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له -
من ربه، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعاً عن مثل معاد آدم لما نال إبليس من
اللعنة التي هي مقابل التوبة { بعضكم لبعض } البعض ما اقتطع من جملة وفيه ما في
تلك الجملة، { عدو } من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين
المستقلين من حق المعاونة - انتهى. فالمعنى فليحذر كل واحد منكم عدوه باتباع الأوامر
واجتناب النواهي.
قال الحرالي: وفيه إشعار بما تمادى من عدواء الشيطان على ذرء من ولد آدم
حتى صاروا من حزبه، وفيه أيضاً بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس
فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة فيهتدون بهداه من حيث عمّ بالعداوة، فاعتدى
ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على
أهل الخير شراً. { ولكم في الأرض مستقر } تكونون فيه، وهو من القرار وهو كون
الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق؛ { ومتاع } تتمتعون به، والمتاع هو الانتفاع
بالمنتفع به وقتاً منقطعاً يعرف نقصه بما هو أفضل منه، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع
بما في هذه الدنيا ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا فيه، من حيث إن لفظ المتابع
أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر وأرزاق سباع الحيوان
وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ
من لا خلاق له في الآخرة؛ { إلى حين } أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي إبهام الحين
إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين، فمنهم الذي يناله الأجل صغيراً، ومنهم
الذي يناله كبيراً - انتهى.
ولما تسبب عن جزاء آدم عليه السلام بالإهباط الذي هو كفارة له أنه أُلهم الدعاء
بما رحم به عبر عن ذلك بقوله: { فتلقى } أي فهبطوا فتلقى { آدم } بعد الهبوط،
والتلقي ما يتقبله القلب باطناً وحياً، أو كالوحي أبطن من التلقن الذي يتلقنه لفظاً وعلماً
ظاهراً أو كالظاهر - قاله الحرالي: { من ربه } أي المحسن إليه في كل حال
{ كلمات } أي ترضيه سبحانه بما أفهمه التعبير بالتلقي، وهي جمع كلمة؛ وهي دعاء
دعا به ربه أو ثناء أثنى به عليه؛ وتطلق الكلمة أيضاً على إمضاء أمر الله من غير تسبيب
حكمة ولا ترتيب حكم - قاله الحرالي ثم قال: في عطف الفاء في هذه الآية إشعار بما
استند إليه التلقي من تنبيه قلب آدم وتوفيقه مما أثبته له إمساك حقيقته عند ربه، ويعاضد
معناه رفع الكلمات وتلقيها آدم في إحدى القراءتين، فكأنه تلقى الكلمات بما في باطنه
فتلقته الكلمات بما أقبل بها عليه فكان مستحقاً لها، فكانت متلقية له بما جمعت
القراءتان من المعنى { فتاب } من التوب وهو رجوع بظاهر باطنه الإنابة وهو رجوع
بعلم باطنه الأوبة وهو رجوع بتقوى قلب - انتهى. { عليه } لذكره إياه بالكلمات مخلصاً
في نيته، ثم علل بقوله { إنه هو } أي خاصة { التواب } أي البليغ التوبة المكرر لها، ولما
كان قد جعل على نفسه المقدس أن يتفضل على المحسن قال: { الرحيم } أي لمن
أحسن الرجوع إليه وأهله لقربه.
قال الحرالي: وكان إقراره بلفظه أدباً وإذعاناً لقيام حجة الله على عباده بما أنبأ عنه
من قوله: { { ربنا ظلمنا أنفسنا } [الأعراف: 23] الآية، وهذه توبة قلب وعمل لا ينقض
مخصوص حال القلب منها ناقض وهي التوبة النصوح التي تبرىء من الذنب بتحقيق
توحيد القلب وتوجب تكفير الخطايا الظاهرة التي لا أصل لها في القلب من حجاب
دعوى في الأفعال وشرك في أمر الله، فبمقتضى ما في باطنه ظهر فيه اسمه الرحيم الذي
هو من الرحمة وهو اختصاص فضله بالمؤمن، وبمقتضى ما ظهر عليه من الضراعة
والإقرار ظهر فيه مقتضى اسمه التواب؛ فجمعت توبته الأمرين - انتهى.
ولما أعلموا بالعداوة اللازمة كان كأنه قيل: فما وجه الخلاص منها؟ فقيل: اتباع
شرعنا المشروع للتوبة والرحمة فإنا { قلنا } كما تقدم { اهبطوا } ولما كان الهبوط
الماضي يحتمل أن يكون من مكان من الجنة إلى أدنى منه ولم يخرجوا منها فكرره هنا
للتأكيد تصويراً لشؤم المعصية وتبشيعاً لها قال: { منها } أي الجنة { جميعاً } أي لا
يتخلف منكم أحد سواء كان ذلك قِران واحد أو على التعاقب، وعهدنا إليهم عند
الهبوط إلى دار التكليف أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم إلى الجنة مرة أخرى واعدين من اتبع
متوعدين من امتنع فقلنا: { فإما يأتينكم }، وقال الحرالي: مورد هذه الآية بغير عطف
إشعار بأن ظاهرها افتتاح لم يتقدمه إيجاء بباطن كما تقدم في السابقة، وتكرر الإهباطان
من حيث إن الأول إهباط لمعنى القرار في الدنيا والاغتذاء فيها وذرء الذرية
وأعمال أمر العداوة التي استحكمت بين الخلقين من آدم وإبليس، وهذا الإهباط الثاني
إهباط عن مكانة الرتبة الآمرية الدينية التي كانت خفية في أمر آدم ظاهرة في أمر إبليس،
وفي قوله: { جميعاً } إشعار بكثرة ذرء الخلقين وكثرة الاحداث في أمر الديانة من
النقلين - انتهى.
وخص في إبراز الضمير بمحض الإفراد من غير إيراد بمظهر العظمة إبعاداً عن
الوهم فقال: { مني هدى } أي بالكتب والرسل، ولما كان الهدى الذي هو البيان لا
يستلزم الاهتداء قال: { فمن تبع } أي أدنى اتباع يعتد به، ولذلك اكتفى في جزائه بنفي
الخوف الذي قد يكون عن توبة من ضلال بخلاف ما في طه كما يأتي إن شاء الله
تعالى. والتبع السعي أثر عَلَم الهدى - قاله الحرالي. { هداي } أي المنقول أو المعقول،
فالثاني أعم من الأول. لأنه أعم من أن يكون منقولاً عن الرسل أو معقولاً بالقياس على
المنقول عنهم، أو بمحض العقل كما وقع لورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل
وأضرابهما المشار إليهم بالقليل في قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته
لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً } [النساء: 83] قال العارف شهاب الدين عمر بن محمد
السهروردي في كتابه رشف النصائح الإيمانية: فالعفل حجة الله الباطنة والقرآن حجة
الله الظاهرة. قال الحرالي: وجاء { هداي } شائعاً ليعم رفع الخوف والحزن من تمسك
بحق ما من الحق الجامع، وأدناه من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فيما بينه وبين
الحق وفيما بينه وبين الخلق - انتهى.
ولما كان الخوف أشد لأنه يزداد بمر الزمان، والحزن يحفّ، قدّمه فقال: { فلا
خوف عليهم } أي من شيء آت فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضارّ - قاله
الحرالي. { ولا هم يحزنون } أي على شيء فات، لأنهم ينجون من النار ويدخلون
الجنة والحزن كما قال الحرالي: توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به رَوح،
والقرب منه راحة، وجاء في الحزن بلفظ { هم } لاستبطانه، وبالفعل لأنه باد من باطن
تفكرهم في فائتهم، وجاء نفي الخوف منعزلاً عن فعلهم لأنه من خوف باد عليهم من
غيرهم - انتهى.
ولما بشر المؤمنين الذين اتبعوا الهدى أتبعه إنذار الكافرين الذين نابذوه بقوله:
{ والذين كفروا } قال الحرالي: هذا من أسوأ الكفر لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز
وجل علماً على غيب عهده وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض وما
بينهما كما قال تعالى: { { ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة } }
[الشورى: 29] لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره وجعل في العقل نوراً
يُقرأ به كتابه، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه
الإيمان، وإما صاحب نار، فقال: { وكذبوا بآياتنا } لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبّل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات
المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة، فكفروا بما رأوا فكانوا عمياً، وكذبوا بما سمعوا
فكانوا صُمّاً - انتهى. والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب والألسنة
{ أولئك } أي البُعَداء البغضاء { أصحاب النار } وبين اختصاصهم بالخلود بقوله: { هم
فيها خالدون } فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات
الجنة، فالآية من الاحتباك، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في
الثاني، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول، وقد علم من
ذلك مع قوله { مستقر ومتاع إلى حين } أنه لا بد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف
تكون منازلهم فيها! فكأنه جواب سائل قال: هل بعد هذا الهبوط من صعود؟ قال
الحرالي: وقوله: { هم } فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب
الغم والحزن واليأس وغير ذلك من إحراق النار بواطنهم، وفيه إشعار بكونهم فيها في
الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون "الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه
نار جهنم" والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله. فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا
في الدنيا بحقيقتها، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا وإن لم يشهدوا عيانها، فكل خالد
فيما هو فيه في الدنيا غيباً وفي الآخرة عياناً وفي القبر عرضاً { لترون الجحيم * ثم
لترونها عين اليقين } [التكاثر: 6، 7] { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً } [غافر: 46]
وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس أهل الدعوة
المحمدية صلى الله عليه وسلم: "الناس كلهم تبع لقريش، مؤمنهم لمؤمنهم، وكافرهم لكافرهم"
انتهى. يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول، وهو شامل لغيرهم، ومراد به ذلك الغير
بالقصد الثاني، وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد
من حيث إنها حادثة فلها محدث، وعلى النبوة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقاً لما
في التوراة والإنجيل من غير تعلم، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء
قدر على إعادتها - ذكره الأصفهاني عن الإمام. وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو
هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي من أقبل على حرف منها حق الإقبال
كفاه، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط مثال القراءة لحروفه السبعة
وعلمها والعمل بها: اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نوراً
من نوره، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقاً، ولأنه نفخ فيه من روحه كان
أكمل حياة قبضاً وبسطاً، ولأنه رزقه نوراً من نوره كان أصفى عقلاً وأخلص لباً وأفصح
نطقاً وأعرب بياناً جمعاً وفصلاً، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكاً
وحساً، وعقّله ما أقام من أمره فهماً وعلماً، ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفاناً ووجداً؛
ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعاً وأنساً فأناسه وردده من بين إقبال وإدبار وقبول
وإعراض، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيهاً، ومن شغله
الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفاً { الذين كانت أعينهم في غطاء عن
ذكري } [الكهف: 101] { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [البقرة:
130] { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً } [النحل: 120]. ولما كان متاع الخلق في
الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية
بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظراً واعتباراً اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين
على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون، وأكدوا
تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى
إليه أيام الله، وذكروهم بما مضى من أيام الله، وأنزل الله سبحانه معهم كتباً يتلونها
عليهم ويبينونها لهم علماً وعملاً وحالاً، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون
وأنذر به المدبرون والمعرضون، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، آمن من تنبه للنظر
والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على
وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن، وكما شغل المدعوين
إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم
في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد
في شَياخهم، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في
ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة، وكلاهما جعل القرآن وراء
ظهره المدعو لفظاً وعلماً والمولد الغافل علماً وعملاً، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه
الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار، وإنما جعله
أمامه من قرأه علماً وحالاً وعملاً، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة؛ ولما قامت
الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذاباً في النار - أكثر
منافقي أمتي قراؤها، { { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [النساء: 145] فإذاً لا
بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى
للمتقين، وإجماع على الاهتمام، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر
عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام،
فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه { { وكتبنا له
في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء } [الأعراف: 145] فخذها بقوة
{ { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } [مريم: 13] { { فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } [هود:
112] فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره؛ ولكل
حرف شرط يخصه - انتهى.
ولما أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً وعقبها بذكر الإنعامات العامة
داعياً للناس عامة لا سيما بني إسماعيل العرب الذين هم قوم الداعي صلى الله عليه وسلم وكان أحق من
دُعِي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حق فزاغوا عنه ولا سيما إن
كانت لهم قرابة لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير، فإن رجعوا
اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره وانحسم شره، وإن لم يرجعوا طال جدالهم فبان للجاهل
ضلالهم فكان جديراً بالرجوع والكف عن غيه والنزوع، وعرفت من تمادي الكلام معهم
الأحكام وبان الحلال والحرام؛ فلذلك لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار
وختم بأن وعد في اتباع الهدى وتوعد شرع سبحانه يخص العلماء من المنافقين بالذكر
وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزم عموم المصارحين منهم
بالكفر، إذ كانوا من أعظم من خُص بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء،
وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها فقصّ عليهم ما
مثله يليّن الحديد ويخشع الجلاميد فقال تعالى مذكراً لهم بنعمه الخاصة بهم: { يا بني
إسرائيل } ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر فيقال: لما كان
الكفار قسمين: قسم محض كفره، وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين:
قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحق منه،
ذكر تعالى قسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال: { إن الذين كفروا سواء
عليهم } إلى آخره. ثم أتبعه قسم المنافق، لأنه أهم بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين
وإظهارهم أنهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر، فقال: { ومن الناس من يقول آمنا }
إلى آخره؛ ولما فرغ من ذلك ومما استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة
فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل،
والاستعطاف بذكر النعم، شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف
الحق ويخفيه فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام واستمر على الكفر
باطناً، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته، فلما دعاهم محوا الإيمان
الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة
التي هي مبدأ الإيمان، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين
بهم في كثير من القرآن، وأخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة
بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم، فإن مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس
الأفكار فتُسرع في أقطار الأوطار حتى تصير كالأطيار وتأتي ببدائع الأسرار، ولقد نشر
سبحانه في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع
الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنه هدى للعالمين؛ هذا إجمال الأمر،
وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجل عن الوصف، تذاق بحسن التعليم
ويشفى عيّ جاهلها بلطيف التكليم - والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.
وقال الحرالي: ثم أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظماً بابتداء خطاب العرب
من قوله: { يا أيها الناس } وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس
خطاب آخر يناسبه في جملة معناه وينتظم تفصيله بتفصيله، فكان أول وأولى من خوطب
بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم
الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه. ثم قال: لما انتظم
إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدى في وقتها { { إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى ونور } [المائدة: 44] وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدم لها
في ارتقائه من كمال الهدى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا القرآن، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه
حتى يهتدي بهم العرب ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق - انتهى.