التفاسير

< >
عرض

يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّٰيَ فَٱرْهَبُونِ
٤٠
وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ
٤١
وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٤٢
-البقرة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

وابتدأ سبحانه بتذكيرهم بما خصهم به عن النوع الآدمي من النعم التي كانوا يقابلونها بالكفران وما عاملهم به من إمهالهم على مرتكباتهم ومعاملتهم بالعفو والإقالة مما يبين سعة رحمته وعظيم حلمه، وابتدأ من أوامرهم بالإيفاء بالعهود التي من أعظمها متابعة هذا النبي الكريم والإيمان بكتابه الذي نفى عنه الريب فقال: { يا بني إسرائيل } أي الذي شرفته وشرفت بنيه من أجله { اذكروا } من الذكر بالكسر والضم بمعنى واحد يكونان باللسان وبالجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر باللسان وبالضم بالقلب، والذي بالقلب ضده النسيان، والذي باللسان ضده الصمت - نقله الأصفهاني. وقال الحرالي: من الذكر وهو استحضار ما سبقه النسيان. { نعمتي } وهي إنالة الشخص ما يوافق نفسه وبدنه وعند المتفطن ما يوافق باطنه وظاهره مما بين قلبه وشعوبه من أهله وحشمه { التي } تي منها إشارة لباطن نازل متخيل مبهم تفسره صلته بمنزلة ذي وال منها إشارة لذلك المعنى بالإشارة المتخيلة - انتهى { أنعمت } أي بها ودللت على شرفها بإضافتها إلى { عليكم } وتلك النعمة الشريفة هي الإتيان بالهدى من الكتب والرسل الذي استنقذتكم به من هوان الدنيا والآخرة { وأوفوا } من الوفاء وهو عمل لاحق بمقتضى تقدم علم سابق - قاله الحرالي. { بعهدي } أي الذي أخذته عليكم في لزوم ما أنزل إليكم من متابعة نبيكم ومن آمَرَكم باتباعه من بعده، والعهد التقدم في الشيء خفية اختصاصاً لمن يتقدم له فيه - قاله الحرالي، وقال الأصفهاني: حفظ الشيء ومراعاته حالاً فحالاً، قال الخليل: أصله الاحتفاظ بالشيء وإجداد العهد به، { أوف بعهدكم } أي في جعلكم ممن لا خوف عليهم ولا حزن بسعة العيش والنصر على الأعداء كما يأتي عن نص التوراة في مظانه من هذا الكتاب { وإياي } أي خاصة { فارهبون } أي ولا تزلّوا اجْعَلْكم في مصير الكافرين بعد الضرب بأنواع الهوان في الدنيا، والرهب حذر النفس مما شأنها منه الهرب لأذى تتوقعه، وخوطبوا بالرهبة لاستبطانها فيما يختص لمخالفة العلم، قال الحرالي: وأطال سبحانه في حجاجهم جرياً على قانون النظر في جدال العالم الجاحد وخطاب المنكر المعاند، وفي قوله تعالى: { وآمنوا بما أنزلت } أي أوجدت إنزاله { مصدقاً لما معكم } تقرير لذلك الكتاب لا ريب فيه، وأمروا كما قال الحرالي تجديد الإيمان بالقرآن لما فيه من إنباء بأمور من المغيبات التي لم تكن في كتابهم كتفاصيل أمور الآخرة التي استوفاها القرآن، لأنه خاتم ليس وراءه كتاب ينتظر فيه بيان، وقد أبقى لكل كتاب قبله بقية أحيل فيها على ما بعده - ليتناءى البيان إلى غاية ما أنزل به القرآن حين لم يعهد إليهم إلا في أصله على الجملة - انتهى. وفي قوله: { ولا تكونوا أول كافر به } معنى دقيق في تبكيتهم وأمر جليل من تعنيفهم وذلك أنه ليس المراد من { أول } ظاهر معناه المتبادر إلى الذهن فإن العرب كثيراً ما تطلق الأول ولا تريد حقيقته بل المبالغة في السبق، كما قال مقيس بن صبابة وقد قتل شخصاً من الصحابة رضوان الله عليهم كان قتل أخاه خطأ ورجع إلى مكة مرتداً.

حللت به وتري وأدركت ثؤرتي وكنت إلى الأوثان أول راجع

هذا في جانب الإثبات، فإذا نفيت ناهياً فقلت: لا تكن أول فاعل لكذا، فمعناه إنك إن فعلت ذلك لم تكن صفتك إلا كذلك، فهو خارج مخرج المبالغة في الذم بما هو صفة المنهي فلا مفهوم له، وعبر به تنبيهاً على أنهم لما تركوا اتباع هذا الكتاب كانوا لما عندهم من العلم بصحته في غاية اللجاجة فكان عملهم في كفرهم وإن تأخر عمل من يسابق شخصاً إلى شيء، أو يكون المعنى أنهم لم يمنعهم من الإيمان به جهل بالنظر ولا عدم إطلاع على ما أتى به أنبياؤهم من البشر بل مجرد الحسد للعرب أن يكون منهم نبي المستلزم لحسد هذا النبي بعينه، لأن الحكم على الأعم يستلزم الحكم على الأخص بما هو من أفراد الأعم. فصارت رتبة كفرهم قبل رتبة كفر العرب الجاهلين به أو الحاسدين له صلى الله عليه وسلم بخصوصه لا لعموم العرب، فكان أهل الكتاب أول كافر به لا يمكن أن يقع كفرهم إلا على هذا الوجه الذي هو أقبح الوجوه، فالمعنى لا تكفروا به، فإنه إن وقع منكم كفر به كان أول كفر، لأن رتبته أول رتب الكفر الواقع ممن سواكم فكنتم أول كافر فوقعتم في أقبح وجوه الكفر، ولذا أفرد ولم يقل: كافرين - والله أعلم.
ولما نهاهم عن الكفر بالآيات نهاهم عن الحامل عليه لقوله: { ولا تشتروا } أي تتكلفوا وتلحوا في أن تستبدلوا { بآياتي } أي التي تعلمونها في الأمر باتباع هذا النبي الكريم { ثمناً قليلاً } وهو رياسة قومكم وما تأخذونه من الملوك وغيرهم على حمل الشريعة، والقلة ما قصر عن الكفاية - قاله الحرالي. { وإياي } أي خاصة { فاتقون } أي اجعلوا لكم وقاية من إنزال غضبي، فالتقوى نتيجة الرهبة كما أن هذه الأفعال نتيجة ما في آية الرهبة، { ولا تلبسوا } واللبس إبداء الشيء في غير صورته، ومنه اللباس لإخفائه الأعضاء حتى لا تبين هيئتها - قاله الحرالي: { الحق } أي ما تقرون به على ما هو عليه من التوراة والإنجيل مما لا غرض لكم في تبديله { بالباطل } مما تحرفونه منهما، والحق قال الحرالي ما يقر ويثبت حتى يضمحل مقابله، فكل زوجين فأثبتهما حق وأذهبهما باطل، وذلك الحق فالباطل هو ما أمد إدالته قصير بالإضافة إلى طول أمد زوجه القار - انتهى. ولما كان اللبس قد يفارق الكتمان بأن يسأل شخص عن شيء فيبديه ملتبساً بغيره أو يكتمه وهو عالم به قال: { وتكتموا الحق } أي عمن لا يعلمه { وأنتم تعلمون } أي مكلفون، وجعله الحرالي على ظاهره فقال: لما طلبهم تعالى بالوفاء بالعهد نهاهم عن سوء العمل وما لبسوا به الأمر عند اتباعهم من ملتهم وعند من استرشدهم من العرب، فلبسوا باتباعهم حق الإيمان بموسى عليه الصلاة والسلام والتوراة بباطل ما اختذلوه من كتابهم من إثبات الإيمان لمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن، فكتموا الحق التام الجامع ولبسوا الحق الماضي المعهود بالباطل الأعرق الأفرط، لأن باطل الحق الكامل باطل مفرط معرق بحسب مقابله، وعرفهم بأن ذلك منهم كتمان شهادة عليهم بعلمهم بذلك إفهاماً، ثم أعقبه بالشهادة عليهم بالعلم تصريحاً - انتهى.
وفي هذه الآية أعظم زاجر لأهل الكتاب عما أظهروا فيه من العناد، ومن لطف الله تعالى زجر القاسي البعيد ونهي العاصي القلق إلى ما دون ذلك من تنبيه الغافل وزيادة الكامل. قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة: وجه إنزال هذا الحرف - يعني حرف النهي - كف الخلق عما يهلكهم في أخراهم وعما يخرجهم عن السلامة في موتهم وبعثهم مما رضوا به واطمأنوا إليه وآثروه من دنياهم، فمتوجهه للمطمئن بدنياه المعرض عن داعيه إلى اجتناب ما هو عليه يسمى زجراً، ومتوجهه للمتلفّت المستشعر ببعض الخلل فيما هو عليه يسمى نهياً، وهما يجتمعان في معنى واحد ومقصود واحد إلا أنه متفاوت، ولذلك رددهما النبي صلى الله عليه وسلم على المعنى الجامع في هذا الحديث يعني المذكور أول البقرة، وأولاهما بالبدئية في الإنزال الزجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعثه الله حين انتهى الضلال المبين في الخلق ونظر الله سبحانه إلى جميع أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، كما ورد في الحديث الصحيح إسناداً ومتناً، ولذلك كان أول منزل الرسالة سورة
{ يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر* } [المدثر: 1-5] وهي أول قوارع الأمر كما أن فجاءة الساعة أول قوارع الخلق، ولذلك انتظم فكرهما في قوله تعالى: { { فإذا نقر في الناقور * فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير* } [المدثر: 8-10] وللمزجور حالان إما أن ينفر عند الزجرة توحشاً كما قال تعالى: { { كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة * } [المدثر: 50-51] وإما أن يدبر بعد فكره تكبراً كما قال تعالى: { { ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر } [المدثر: 21-23] وربما شارف أن يبصر فصرف، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لكنها عقول كادها باريها { { سأصرف آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } [الأعراف: 146] صرفوا عن آيات الحق السماوية على ظهورها عقوبة على ذنب تكبرهم على الخلق مع الإحساس بظهور آية انضمام الأرحام في وضوحها وكل قارعة لنوعي الكافرين النافرين والمدبرين من هذا الحرف وتمام هذا المعنى ينهى المتأنس المحاصر عن الفواحش الظاهرة والباطنة الضارة في العقبى وإن تضرروا بتركها في الدنيا نحو قوله تعالى: { ولا تقربوا } في أكل مال اليتيم والزنا وإتيان الحائض - إلى ما دون ذلك من النهي عما يعدونه في دنياهم كيساً، نحو قوله: { { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة: 188] { ولا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } [آل عمران: 13] { ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً } [الحجرات: 12] و { لا يسخر قوم من قوم } [الحجرات: 11] وما لحق بهذا النمط - إلى ما دون ذلك على اتصال التفاوت من النهي عن سوء التأويل لطية غرض النفس نحو قوله تعالى: { { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا } [النساء: 94] إلى ما دون ذلك من النهي عما يقدح في الفضل وإن كان من حكم العدل نحو قوله تعالى: { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله } [النور: 22] إلى تمام ما لا تحصل السلامة إلا به من النهي عما زاد على الكفاف والبلغة في الدنيا الذي به يصح العمل بالحكمة نحو قوله تعالى: { { ولا تمش في الأرض مرحاً } [الإسراء: 37] إلى قوله: { { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } [الإسراء: 39]، ونحو قوله تعالى: { { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه } [طه: 131]، لأن كل زائد على الكفاف فتنة، وهذا هو أساس ما به تتفاوت درجات العلم في الدنيا ودرحات الجنة في الآخرة، ولا تصح الوجوه والحروف التي بعده أي وهي سائر الحروف علماً وعملاً وثباتاً وقبولاً عند التمحيص إلا بحسب الإحكام في قراءة هذا الحرف وجمعه وبيانه لأنه ظهور لما بعده من صلات حرف الأمر وما قصّر بعشرات فرق الأمة إلى التقصير في حرف النهي، لأن الملة الحنيفية مبنية على الاكتفاء باليسير من المأمورات والمبالغة في الحمية من عموم ما لا يتناهى من المنهيات لكثرة مداخل الآفات منها على الخلق فيما بعد الموت ويصعب هذا الحرف على الخلق بما استقر في أوهامهم أن دنياهم لا تصلح إلا بالمثابرة على صنوف المنهيات لنظرهم لجدواها في الدنيا وعماهم عن وبالها في الأخرى وما حوفظ على الرياضات والتأديبات والتهذيبات إلا بوفاء الحمية منها، والحمية أصل الدواء، فمن لم يحتم عن المنهيات لم ينفعه تداويه بالمأمورات، كالذي يتداوى ولا يحتمي يخسر الدواء ويتضاعف الداء { هل أنبئكم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً* } [الكهف: 103، 104] وجاؤوا بحسنات كالجبال وكانوا يصومون ويصلون ويأخذون وهناً من الليل لكن ذلك تداو بغير حمية لما لم يحتموا من الدنيا التي نهوا عن زهرتها، فكانوا إذا لاحت لهم وثبوا عليها فيصيبون منها الشهوات ويعملون المعصيات فلم ينفعهم المداواة، فمن احتمى فقد قرأ هذا الحرف وهو حسبه فاقرؤوا ما تيسر منه، أحب العبادات إلى الله ترك الدنيا وحمية النفس من هوى جاهها ومالها "بل نبياً عبداً" "أجوع يوماً وأشبع يوماً" "ومن رغب عن سنتي فليس مني" ، والقرآن حجة لمن عمل به فصار إمامه يقوده إلى الجنة. وحجة على من لم يعمل به يصير خلفه فيسوقه إلى نار الجبة التي في جب وادي جهنم التي تستعيذ جهنم منها والوادي والجب في كل يوم سبع مرات { { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [الشورى: 52] { { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [البقرة: 26] { ولا يزيد الظالمين إلا خساراً*] [الإسراء: 82] "أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" .
ثم قال فيما تحصل به قراءة حرف النهي: اعلم أن الموفي بقراءة حرفي الحلال والحرام المنزلين لإصلاح أمر الدنيا وتحسين حال الجسم والنفس تحصل له عادة بالخير تيسر عليه قراءة حرفي صلاح الآخرة من الأمر والنهي، ولما اقتضت الحكمة والعلم إقامة أمر الدنيا بقراءة حرفي صلاحها تماماً اقتضى الإيمان بالغيب وتصديق الوعد والوعيد تجارة اشتراء الغيب الموعود من عظيم خلاق الأخرى بما ملك العبد من منقود متاع الدنيا، فكل الحلال ما عدا الكفاف بالسنة متجر للعبد، إن أنفقه ربحه وأبقاه فقدم عليه، وإن استمتع به أفناه فندم عليه { { فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } [التوبة: 69] { لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين* } [المنافقون: 10] { { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [آل عمران: 92] ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وكما أن حرف الحلال موسع ليحصل به الشكر فحرف النهي مضيق لمتسع حرف الحلال ليحصل به الصبر ليكون به العبد شاكراً صابراً، فالذي يحصل به قراءة حرفي النهي أما من جهة القلب ورؤيا الفؤاد فمشاهدة البصيرة لموعود الجزاء حتى كأنه ينظر إليه لترتاح النفس بخيره وترتاع من شره، كما قال حارثة: "كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وإلى أهل النار في النار يعذبون" فأثمر له ذلك ما أحبر به عن نفسه في قوله: "وعزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها وخزفها" وخصوصاً من أيد بالمبشرات من الرؤيا الصالحة والكشف الصادق ليدع الفاني للباقي على يقين ومشاهدة، وأما من جهة حال النفس فالصبر بحبسها عما تشتهيه طبعاً مما هو محلل لها شرعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما رثى لحاله: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟" { { واستعينوا بالصبر } ، [البقرة: 45] وصبر النفس عن شهواتها وإن كانت حلالاً هو حقيقة تزكيتها، وقتلها بإضنائها منها هو حياتها، وإطلاقها ترتع في شهواتها هو تدسيتها، { { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها* } [الشمس: 9-10] والنفس مطية يقويها إنضاؤها، ويضعفها استمتاعها، وحبسها عن ذلك شائع في جهات وجوه الحلال كلها إلاّ في شيئين: في النساء بكلمة الله، لأنهم من ذات نفس الرجال ولسن غيراً لهم { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها } [الأعراف: 189] و { { أتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } [النساء: 20] والثاني في الطيب، لأنه غذاء للروح وتقوية للحواس ونسمة من باطن الملكوت إلى ظاهر الملك، وما عداهما فالاستمتاع به واتباع النفس هواها فيه علامة تكذيب وعد الرحمن وتصديق وعد الشيطان { { وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون } [النحل: 26] { يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } [النساء: 120] هذا من جهة النفس، وأما من جهة العمل وتناول اليد فرفعها عما زاد على الكفاف وتخليته لذوي الحاجة ليتخذوه معاشاً، وأن يكون التمول من غير القوام تجارة نقل وضرب في الأرض وإرصاد لوقت حاجة لا حكرة وتضييقاً، اتخاذ أكثر من لبستين للمهنة والجمعة علامة لضعف الإيمان وخلاف السنة وانقطاع عن آثار النبوة وعدول عن سنة الخلفاء وترك لشعار الصالحين، وكذلك تصفية لباب الطعام وقصد المستحسن في الصورة دون المستحسن في العلم وإيثار الطيب في المطعم على الطيّب في الورع وتكثير الأدم وتلوين الأطعمة، وكذلك اتخاذ أكثر من مسكن واحد وأكثر من مزدرع كاف ورفع البناء والاستشراف بالمباني، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من رد السلام على رجل اتخذ قبة في المدينة حتى هدمها وسوّاها مع بيوت أهل المدينة، وإنما الدنيا للمؤمن سجن إن شعر به وضيق فيه على نفسه طلبت السراح منه إلى الآخرة فيسعد، وإن لم يشعر بأنها سجن فوسع فيها على نفسه طلب البقاء فيها وليست بباقية، والخيل ثلاثة: أجر للمجاهد، ووزر على المباهي، وعفو للمستكفي بها فيما يعنيه من شأنه، والزيادة على الكفاف من النعم السائمة انقطاع عن آثار النبوة وتضييق على ذوي الحاجة وتمول لما وضع لإقامة المعاش وأن يتخذ منه الكفاف، قال صلى الله عليه وسلم: "لنا غنم مائة لا نريد أن تزيد، فإذا ولّد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة" والطعام لا يتمول وكذلك ما اتخذ للقوام لا يحتكره إلا خاطىء "من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برىء من الله وبرىء الله منه" فالأمتعة تجلب وتختزن ويستنمى فيه الدينار والدراهم، والطعام والقوام يجلب ولا يختزن فيستنمى فيه الدينار والدرهم، ومن اختزنه يستنمي فيه الدينار والدرهم فقد احتكره، وما منع فيه من مدّ العين فأحرى أن يمنع فيه مد اليد { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً } [الحجر: 88] الآيتين، فبهذه الأمور من إيمان القلب ورؤية الفؤاد وصبر النفس وكف اليد عن الانبساط في التمول فيما به القوام تحصل قراءة حرف النهي، والله ولي التأييد - انتهى.