التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ
١١٦
فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ
١١٧
إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ
١١٨
وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ
١١٩
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ
١٢٠
فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ
١٢١
ثُمَّ ٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ
١٢٢
-طه

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان المقصود من السورة - كما سلف - الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها على وجه النسيان، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين، تأكيداً للمعنى المشار إليه، تقريراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ، وإرشاداً لمن "غلب عليه" طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال: { وإذ } أي اذكر هذا واذكر حين { قلنا } بما لنا من العظمة، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت { للملائكة } أي المجبولين على مضي العزم والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائق فتور { اسجدوا لآدم } الذي خلقته بيدي، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه، فإن الحلم والكرم من صفاتنا، والرحمة من شأننا، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللدد { فسجدوا } أي الملائكة { إلا إبليس } الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فأيس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس، فكأنه قيل: ما كان من حاله في عدم سجوده؟ فقيل: { أبى* } أي تكبر على آدم فعصى أمر الله { فقلنا } بسبب ذلك بعد أن حلمنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة: { يا آدم إن هذا } الشيطان الذي تكبر عليك { عدو لك } دائماً لأن الكبر الناشىء عن الحسد لا يزول { ولزوجك } لأنها منك { فلا يخرجنكما } أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما، ووجه النهي إليه والمراد: هما، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبلاغ في التنفير، وزاد في التنبيه بقوله: { من الجنة } أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها.
ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره، وكانت المرأة تابعة للرجل، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي، والذب والرعي، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة، أفرد بالتحذير من التعب لذلك وعدّاً لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً، وتعريفاً بأن أمرها بيده، وهو إن تصلب قادها إلى الخير، وإلا قادته إلى الضير، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال: { فتشقى } أي فتتعب، ولم يرد شقاوة الآخر، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر، والخبر لا يخلف. ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن. ذاكراً لها بلفظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر، فقال: { إن لك } أي علينا { ألا تجوع فيها } أي يوماً ما { ولا تعرى* } فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك { وأنك لا تظمؤا } بالتهاب القلب { فيها ولا تضحى* } أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمس، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر { فوسوس } أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس { إليه الشيطان } المحترق المطرود، وهو إبليس، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم، وقذف المعاني في قلبه، وكأنه عبر بـ "إلى "، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام، وكأنه قيل: ما دس إليه؟ فقيل: { قال يا آدم } ثم ساق له الغش مساق العرض، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله: { هل أدلك } فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله: { على شجرة الخلد } أي التي من أكل منها خلد، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله: { وملك لا يبلى* } أي لا يخلق أصلاً، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال: نعم، فقال: شجرة الخلد هذه - مشيراً إلى التي نهي عنها - ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
{ فأكلا } أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل { منها } هو وزوجه، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما { فبدت لهما } لما خرقا من ستر النهي وحرمته { سوءاتهما } وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه { وطفقا } أي شرعا { يخصفان } أي يخيطان أو يلصقان { عليهما من ورق الجنة } ليسترا عوراتهما { وعصى آدم } وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر { ربه } أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه { فغوى* } من الغواية وهي الضلال، ولذلك قالوا: المعنى: فضلّ عن طريق السداد، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره، وهو صفيه، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء، لأن رحمته واسعة، وحلمه عظيم، وعفوه شامل، فلا يهمنك أمر القوم اللد، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم.
ولما كان الرضى عنه - مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه - مستبعداً جداً، أثبت ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال: { ثم اجتباه ربه } أي المحسن إليه { فتاب عليه } أي بسبب الاجتباء بالرجوع إلى ما كان عليه من طريق السداد { وهدى* } بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب.