التفاسير

< >
عرض

مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ
٥٥
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ
٥٦
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ
٥٧
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى
٥٨
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى
٥٩
فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ
٦٠
-طه

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر سبحانه وتعالى عما خلق في الأرض من المنافع الدالة على تمام علمه وباهر قدرته، على وجه دالّ على خصوص القدرة على البعث، وكان من الفلاسفة تناسخيتهم وغيرهم من يقر الله بالوحدانية ولا يقر بقول أهل الإسلام: إن الروح جسم لطيف سار في الجسم سريان النار في الفحم، بل يقول: إنها ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة لجسم وليست متصلة به اتصال انطباع ولا حلول فيه، بل اتصال تدبير وتصرف، وأنها إذا فارقت البدن اتصلت بالروحانيين من العالم العقلي الذي هو عالم المجردات وانخرطت في سلك الملائكة المقربين، أو اتصلت ببعض الأجرام السماوية من كوكب أو غيره كاتصالها بالبدن الأول وانقطع تعلقها به فلم تعد إليه حتى ولا يوم البعث عند من يقول منهم بالحشر، وصل بذلك قوله تعالى، يرد عليهم، معبراً بالضمير الذي يعبر به الهيكل المجتمع من البدن والنفس: { منها } أي الأرض لا من غيرها { خلقناكم } إذ أخرجناكم منها بالعظمة الباهرة في النشأة الأولى بخلق أبيكم آدم عليه السلام { وفيها } لا في غيرها كما أنتم كذلك تشاهدون { نعيدكم } بالموت كذلك أجساماً وأرواحاً، فتصيرون تراباً كما كنتم، وللروح مع ذلك وأن كانت في عليين تعلق ببدنها بوجه ما، يدرك البدن به اللذة بالتذاذها والألم بتألهما، وقد صح أن الميت يقعد في قبره ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، لا يقدر أحد منكم أن يخلص من تلك العظمة المحيطة بجليل عظمته ولا بدقيق حكمته { ومنها } لا من غيرها { نخرجكم } يوم البعث بتلك العظمة بعينها { تارة أخرى* } كما بدأناكم أول مرة مثل ما فعلنا في النبات سواء، فقد علم أن هذا فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع، فمرة جعلكم أحياء من شيء ليس له أصل في الحيوانية أصلاً، وكرة ردكم إلى ما كنتم عليه قبل الحياة تراباً لا روح فيه ولا ما يشبهها، فلا ريب أن فاعل ذلك قادر على أن يخرجكم منها أحياء كما ابتدأ ذلك، بل الإعادة أهون في مجاري العادة.
ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح، ليس وراءها مطمح، فكان المعنى: أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره، وكان المقام لتعظيم القدرة، عطف عليه قوله: { ولقد أريناه } أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا { آياتنا } أي التي عظمتها من عظمتنا { كلها } بالعين والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، لا سيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ إليه إن شاء الله تعالى في سورة الأنبياء { فكذب } أي بها { وأبى* } أي أن يرسل بني إسرائيل؛ وهذا أبلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف، فكأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه؟ فقيل: { قال } حين لم يجد مطعناً مخيلاً للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم لأنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره، وتقبل العقول له، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه، ووهن في نفسه وهناً عظيماً بتأمل كلماته مفردة ومركبة يعرف مقداره: { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا } هذه التي نحن مالكوها { بسحرك يا موسى* } فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر، فكان ذلك - مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال - صارفاً لهم عن اتباع ما رأوا من البيان، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكداً إيذاناً بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته: { فلنأتينك } أي والإله الأعظم! بوعد لا خلف فيه { بسحر مثله } تأكيداً لما خيل به؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقاً لربط قومه فقال: { فاجعل بيننا وبينك موعداً } أي من الزمان والمكان { لا نخلفه } أي لا نجعله خلفنا { نحن ولا أنت } بأن نقعد عن إتيانه.
ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: { مكاناً } وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله: { سوى * } أي عدلاً بيننا، لا حرج على واحد منا في قصده أزيد من حرج الآخر، فانظر هذا الكلام الذي زوقه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم، ثم في غمرات النار أحرقهم، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال، والخواطر والأحول، ويعرضها على محك الشرع: الكتاب والسنة، فما وافق لزمه وما لا تركه.
ولما كان مجتمع سرورهم الذي اعتادوه حاوياً لهذه الأغراض زماناً ومكاناً وغيرهما، اختاره عليه السلام لذلك، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى: { قال موعدكم } أي الموصوف { يوم الزينة } أي عيدكم الذي اعدتم الاجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل { وأن يحشر } بناه للمفعول لأن القصد الجمع، لا كونه من معين { الناس } أي إغراء ولو بكره { ضحى* } ليستقبل النهار من أوله، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم، والمتكبرين على الحق وأتباعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر { فتولى فرعون } عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله { فجمع كيده } أي مكره وحيلته وخداعه، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة، حشرهم من كل أوب، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر { ثم أتى * } للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها.