التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٤١
قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ مِنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ
٤٢
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ
٤٣
بَلْ مَتَّعْنَا هَـٰؤُلاۤءِ وَآبَآءَهُمْ حَتَّىٰ طَالَ عَلَيْهِمُ ٱلْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي ٱلأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ
٤٤
-الأنبياء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان التقدير حاق بهم هذا باستهزائهم بك، تبعه ما يدل على أن الرسل في ذلك شرع واحد، تسلية له صلى الله عليه وسلم وتأسية، فقال عاطفاً على { وإذا رءاك }: { ولقد } مؤكداً له لمزيد التسلية بمساواة إخوانه من الرسل وبتعذيب أعدائه. ولما كان المخوف نفس الاستهزاء لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: { استهزئ برسل } أي كثيرين.
ولما كان معنى التنكير عدم الاستغراق، أكده بالخافض فقال: { من قبلك فحاق } أي فأحاط { بالذين سخروا منهم } لكفرهم { ما كانوا } بما هو لهم كالجبلة { به يستهزءون* } من الوعود الصادقة كبعض من سألوه الإتيان بمثل آياتهم كقوم نوح ومن بعدهم.
ولما هددهم بما مضى مما قام الدليل على قدرته عليه، وختمه - لوقوفهم مع المحسوسات - بما وقع لمن قبلهم، وكان الأمان عن مثل ذلك لا يكون إلا بشيء يوثق به، أمره أن يسألهم عن ذلك بقوله: { قل من يكلؤكم } أي يحفظكم ويؤخركم ويكثر رزقكم، وهو استفهام توبيخ.
ولما استوى بالنسبة إلى قدرته حذرهم وغفلتهم، قال: { بالّيل } أي وأنتم نائمون. ولما كانت مدافعة عذابه سبحانه غير ممكنة لنائم ولا يقظان قال: { والنهار } أي وأنتم مستيقظون. ولما كان لا منعم بكلاية ولا غيرها سواه سبحانه، ذكرهم بذلك بصفة الرحمة فقال: { من الرحمن } الذي لا نعمة بحراسة ولا غيرها إلا منه حتى أمنتم مكره ولو بقطع إحسانه، فكيف إذا ضربتم بسوط جبروته وسطوة قهرة وعظموته.
ولما كان الجواب قطعاً: ليس لهم من يكلؤهم منه وهو معنى الاستفهام الإنكاري، قال مضرباً عنه: { بل هم } أي في أمنهم من سطواته { عن ذكر ربهم } الذي لا يحسن إليهم غيره { معرضون* } فهم لا يذكرون أصلاً فضلاً عن أن يخشوا بأسه وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان.
ولما أرشد السياق إلى أن التقدير: أصحيح هذا الذي أشرنا إليه من أنه لا مانع لهم منا، عادله بقوله إنكاراً عليهم: { أم لهم ءالهة } موصوفة بأنها { تمنعهم } نوبَ الدهر. ولما كانت جميع الرتب تحت رتبته سبحانه، أثبت حرف الابتداء فقال محقراً لهم: { من دوننا } أي من مكروه هو تحت إرادتنا ومن جهة غير جهتنا.
ولما كان الجواب قطعاً: ليس لهم ذلك، وهو بمعنى الاستفهام، استأنف الإخبار بما يؤيد هذا الجواب، ويجوز أن يكون تعليلاً، فقال: { لا يستطيعون } أي الآلهة التي يزعمون أنها تنفعهم، أو هم - لأنهم لا مانع لهم من دوننا - { نصر أنفسهم } من دون إرادتنا فكيف بغيرهم، أو يكون ذلك صفة الآلهة على طريق التهكم { ولا هم } أي الكفار أو الآلهة { منا } أي بما لنا من العظمة { يصحبون* } بوجه من وجوه الصحبة حتى يصير لهم استطاعة بنا، فانسدت عليهم أبواب الاستطاعة أصلاً ورأساً.
ولما لم يصلح هذا لأن يكون سبباً لاجترائهم، أضرب عنه قائلاً في مظهر العظمة، إشارة إلى أن اغترارهم به سبحانه - مع ما له من دلائل الجلال - من أعجب العجب، بانياً على نحو "لا كالىء لهم منه ولا مانع": { بل متعنا } أي بعظمتنا { هؤلاء } أي الكفار على حقارتهم، أو الإضراب عن عدم استطاعتهم للنصر، والمعنى أن ما هم فيه من الحفظ إنما هو منا لأجل تمتيعهم بما لا يتغير به إلا مغرور، لا من مانع يمنعهم { وءاباءهم } من قبلهم بالنصر وغيره { حتى طال عليهم العمر } فكان طول سلامتهم غاراً لهم بنا، فظنوا أنه لا يغلبهم على ذلك التمتيع شيء، ولا ينزع عنهم ثوب النعمة.
ولما أقام الأدلة ونصب الحجج على أنه لا مانع لهم من الله، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في اعتقاد غيره فقال: { أفلا يرون } أي يعلمون علماً هو في وضوحه مثل الرؤية بالبصر { أنا } بما لنا من العظمة، وصور ما كان يجريه من عظمته على أيدي أوليائه فقال: { نأتي الأرض } أي التي أهلها كفار، إتيانَ غلبة لهم بتسليط أوليائنا عليهم.
ولما كان الإتيان على ضروب شتى، بيّنه بقوله: { ننقصها من أطرافها } بقتل بعضهم وردّ من بقي عن دينه إلى الإسلام، فهم في نقص، وأولياؤنا في زيادة.
ولما كانت مشاهدتهم لهذا مرة بعد مرة قاضية بأنهم المغلبون، تسبب عنه إنكار غير ذلك فقال: { أفهم } أي خاصة { الغالبون* } أي مع مشاهدتهم لذلك أم أولياؤنا.