نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
ولما دل ما مضى من قصص هؤلاء الأنبياء وغيرهم على أن لله القدرة الباهرة،
القوة البالغة الشاملة للبعث وغيره، وكان ذلك دالاًّ على التوحيد الذي هو أصل الدين،
وأنهم كلهم متفقون عليه بالتصريح من البعض هنا ومن الباقين فيما سبق، كان إثباته
فذلكة هذه القصص وما تقدمها من هذه السورة، فلذلك اتصل به قوله مخاطباً لمن قال
لهم: أفأنتم له منكرون: { إن هذه } أي الأنبياء الذين أرسلناهم قبل نبيكم صلى الله عليه وسلم رجالاً
نوحي إليهم كما أنه رجل نوحي إليه لا آباؤكم ولا ما وجدتموه عليه { أمتكم } أي
مقصودكم أيها الخلق بالاقتداء في الاهتداء، حال كونها { أمة } قال البغوي: وأصل
الأمة الجماعة التي هي على مقصد واحد - انتهى. وأكد سبحانه هذا المعنى فقال:
{ واحدة } كما في الخبر أنهم أولاد علات. أمهاتهم شتى ودينهم واحد. لا اختلاف
بينهم أصلاً في التوحيد الذي هو الأصل ولا في توجيه الرغبات إلينا، وقصر النظر
علينا، علماً منهم بما لنا من صفات الكمال، وأن كل شيء فإلينا مفتقر، ولدينا خاضع
منكسر، فاتبعوهم في ذلك، لا تحيدوا عنهم تضلوا، وإنما فرقناهم وجعلناهم عدداً
بحسب الأمم المتشعبة في الأزمان المتطاولة، وأنا لم نجعل لأحد منهم الخلد، ولغير
من الحكم، فبثثناهم في الأقطار، حتى ملؤوها من الأنوار.
ولما كان المقصود تعيين المراد من غير لبس، عدل عن صيغة العظمة فقال:
{ وأنا ربكم } أي لا غيري، في كل زمان وكل مكان، لكل أمة، لأني لا أتغير على
طول الدهر، ولا يشغلني شأن عن شأن { فاعبدون* } دون غيري فإنه لا كفوء لي.
ولما كان من المعلوم أنهم لم يفعلوا، أعرض إلى أسلوب الغيبة إيذاناً بالغضب،
فكان التقدير في جواب من كأنه قال: ما فعلوا؟: لم يطيعوا أمري في الاجتماع على ما
جمعتهم عليه من عبادتي التي هي سبب لجلب كل خير، ودفع كل ضير ولا افتدوا في
ذلك بالكمّل من عبادي، فعطف عليه قوله { وتقطعوا } أي مخالفة للأمر بالاجتماع ولما
كان الدين الحق من الجلاء والعظمة والملاءمة للنفوس بحيث لا يجهله ولا يأباه أحد
نصح لنفسه وإن جهله، كفى أدنى تنبيه في المبادرة إليه وترك ما سواه كائناً ما كان،
فكان خروج الإنسان عنه بعد أن كان عليه في غاية البعد فضلاً عن أن يتكلف ذلك
بمنازعة غيره المؤدية إلى الافتراق والتباغض ولا سيما إن كان ذلك الغير قريبه أو
صديقه، وكانت صيغة التفعل من القطع صريحة في التفرق، وتفيد العلاج والتكلف،
وكانت تأتي بمعنى التفعيل والاستفعال، عبر بها.
ولما كان في غاية البعد أن يقطع الإنسان أمر نفسه، كان تقديم الأمر أهم فقال:
{ أمرهم } فنصبه بفعل التقطع لأنه بمعنى التقطيع كما قاله البغوي وغيره، أو بمعنى الاستفعال كما قالوا في تجبر وتكبر.
ولما كان في غاية من العجب أن يكون التقطيع واقعاً منهم بهم وأن يكون مستغرقاً
لظرفه، قال: { بينهم } أي فكانوا فرقاً كل فرقة على شعبة من ضلال، زينها لها هواها،
فلم يدعوا شيئاً من الأمر بغير تقطيع، وكان العطف بالواو دون الفاء كما في المؤمنون
لأن ترك العبادة ليس سبباً للتقطع، بل ربما كان عنه الاجتماع على الضلال، كما يكون
في آخر الزمان وكما قال تعالى { كان الناس أمة واحدة } [البقرة: 213] الآية { { وما
تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [البينة: 4].
ولما كان كأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ قال ما هو غاية في الدلالة على باهر العظمة
وتام القدرة ليكون أشد في الوعيد، وصادع التهديد: { كل } أي من هذه الفرق وإن بالغ
في التمرد { إلينا } على عظمتنا التي لا يكافئها شيء، لا إلى غيرنا { راجعون * } فنحكم
بينهم فيتسبب عن ذلك أنا نجازيهم إقامة للعدل فنعطي كلاًّ من المحق التابع لأصفيائنا
والمبطل المائل إلى الشياطين أعدائنا ما يستحقه، وذلك هو معنى قوله تعالى، فارقاً بين
المحسن والمسيء تحقيقاً للعدل وتشويقاً بالفضل: { فمن يعمل } أي منهم الآن
{ من الصالحات وهو } أي والحال أنه { مؤمن } أي بان لعمله على الأساس الصحيح { فلا
كفران } أي إبطال بالتغطية { لسعيه } بل نحن نجزيه عليه بما يستحقه ونزيده من فضلنا
{ وإنا له } أي لسعيه الآن على عظمتنا { كاتبون* } وما كتبناه فهو غير ضائع، بل باق،
لنطلعه على يوم الجزاء بعد أن نعطيه قدرة على تذكره، فلا يفقد منه شيئاً قل أو جل،
ومن المعلوم أن قسميه "ومن يعمل من السيئات وهو كافر فلا نقيم له وزناً" و "من عمل
منها وهو مؤمن فهو في مشيئتنا"، ولعله حذف هذين القسمين ترغيباً في الإيمان.
ولما كان هذا غير صريح في أن هذا الرجوع بعد الموت، بينه بقوله: { وحرام }
أي وممنوع ومحجور { على قرية } أي أهلها { أهلكناها } أي بالموت بعظمتنا { أنهم لا
يرجعون* } أي إلينا بأن يذهبوا تحت التراب باطلاً من غير إحساس، بل إلينا بموتهم
رجعوا فحبسناهم في البرزخ منعمين أو معذبين نعيماً وعذاباً دون النعيم والعذاب
الأكبر، ولقد دل على قدرته قوله: { حتى إذا فتحت } بفتح السد الذي تقدم وصفنا
له، وأن فتحه لا بد منه وقراءة ابن عامر بالتشديد تدل على كثرة التفتيح أو على كثرة
الخارجين من الفتح وإن كان فرحة واحدة كما أشار إطلاق قراءة الجماعة بالتخفيف
{ يأجوج ومأجوج } فخرجوا على الناس؛ وعبر عن كثرتهم التي لا يعلمها إلا هو
سبحانه بقوله: { وهم } أي والحال أنهم { من كل حدب } أي نشز عال من الأرض
{ ينسلون* } أي يسرعون، من النسلان وهو تقارب الخطا مع السرعة كمشي الذئب،
وفي العبارة إيماء إلى أن الأرض كرية { واقترب الوعد الحق } وهو حشر الأموات الذي
يطابقه الواقع، إذا وجد قرباً عظيماً، كأن الوعد طالب له ومجتهد فيه.
ولما دلت صيغة "افتعل" على شدة القرب كما في الحديث أن الساعة إذ ذاك مثل
الحامل المتمّ، علم أن التقدير جواباً لإذا: كان ذلك الوعد فقام الناس من قبورهم:
{ فإذا هي شاخصة } أي واقفة جامدة لا تطرف لما دهمهم من الشدة، ويجوز وهو
أقرب أن تكون إذا هذه الفجائية هي جواب إذا الشرطية، وهي تقع في المجازات سادة
مسد الفاء، فإذا جاءت الفاء معها متفاوتة على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد، فالمعنى:
إذا كان الفتح ووقع ما تعقبه فاجأت الشخوص { أبصار الذين كفروا } أي منهم، لما بدا
لهم ما لم يكونوا يحتسبونه من الأهوال، قائلين: { يا ويلنا } أي حضرنا الويل فهو نديمنا
فلا مدعو لنا غيره { قد كنا } أي في الدنيا { في غفلة من هذا } أي مبتدئة من اعتقاد هذا
البعث فكنا نكذب به فعمتنا الغفلة.
ولما كان من الوضوح في الدلائل والرسوخ في الخواطر بحيث لا يجهله أحد،
أضربوا عن الغفلة فقالوا: { بل كنا ظالمين* } أي بعدم اعتقاده واضعين الشيء في غير
موضعه حيث أعرضنا عن تأمل دلائله، والنظر في مخايله، وتقبل كلام الرسل فيه،
فأنكرنا ما هو أضوأ من الشمس.