التفاسير

< >
عرض

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
٥٩
ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٦٠
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
٦١
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ ٱلْبَاطِلُ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْكَبِيرُ
٦٢
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
٦٣
-الحج

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان الرزق لا يتم إلا بحسن الدار، وكان ذلك من أفضل الرزق، قال دالاً على ختام التي قبل: { ليدخلنهم مدخلاً } أي دخولاً ومكان دخول قراءة نافع وأبي جعفر بفتح الميم، وإدخالاً ومكان إدخال على قراءة الباقين { يرضونه } لا يبغون به بدلاً، بما أرضوه به بما خرجوا منه.
ولما كان التقدير: فإن الله لشكور حميد، وكان من المعلوم قطعاً أنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره وإن اجتهد، لأن الإنسان محل الخطأ والنسيان، فلو أوخذ بذلك هلك، وكان ربما ظن ظان أنه لو علم ما قصروا فيه لغضب عليهم، عطف على ما قدرته قوله: { وإن الله } أي الذي عمت رحمته وتمت عظمته { لعليم } أي بمقاصدهم وما علموا مما يرضيه وغيره { حليم* } عما قصروا فيه من طاعته، وما فرطوا في جنبه سبحانه.
ولما ختم هذه الآيات - التي الإذن للمظلومين في القتال للظالمين - بصفة الحلم، فكان ذلك مخيلة لوجوب العفو عن حقوق العباد كما في شريعة عيسى عليه الصلاة والسلام، نفى ذلك بقوله إذناً للمجهارين فيمن أخرجهم من ديارهم أن يخرجوه من دياره ويذيقوه بعض ما توعده الله به من العذاب المهين: { ذلك } أي الأمر المقرر من صفة الله تعالى ذلك { ومن عاقب } من العباد بأن أصاب خصمه، لمصيبة يرجو فيها العاقبة { بمثل ما عوقب } أي عولج علاج من يطلب حسن العاقبة { به } من أي معاقب كان فلم يتجاوز إلى ظلم { ثم بغي } أي من أيّ باغ كان { عليه } بالعود إلى خصومته لأخذه حقه.
ولما كان ما يحصل للمبغي عليه بالكسر عوداً على بدء من الذل والهوان مبعداً لأن ينجبر، أكد وعده فقال: { لينصرنه الله } أي الذي لا كفوء له.
ولما قيد ذلك بالمثلية، وكان أمراً خفياً، لا يكاد يوقف عليه، فكان ربما وقعت المجاوزة خطأ، فظن عدم النصرة لذلك، أفهم تعالى أن المؤاخذة إنما هي بالعمد، بقوله؛ ويجوز أن يكون التقدير ندباً إلى العفو بعد ضمان النصر: إن الله لعزيز حكيم، ومن عفا وأصلح فقد تعرض لعفو الله عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، فهو احتباك: ذكر النصرة دليل العزة والحكمة، وذكر العفو منه سبحانه دليل حذف العفو من العبد { إن الله } أي الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً { لعفو } أي عمن اقتص ممن ظلمه أول مرة { غفور* } لمن اقتص ممن بغى عليه.
ولما ختم بهذين الوصفينن ذكر من الدليل عليهما أمراً جامعاً للمصالح، عاماً للخلائق، يكون فيه وبه الإحسان بالخلق والرزق فقال: { ذلك } أي معرفة اتصافه سبحانه بهذين الوصفين { بأن الله } المتصف بجميع صفات الكمال { يولج } لأجل مصالح العباد المسيء والمحسن { الليل في النهار } فيمحو ظلامه بضيائه، ولو شاء مؤاخذة الناس لجعله سرمداً فتعطلت مصالح النهار { ويولج النهار في الليل } فينسخ ضياءه بظلامه، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الليل، أو يطول أحدهما حيث يراد استيلاء ما طبع عليه على ضد ما طبع عليه آخر لما يراد من المصالح التي جعل ذلك لأجلها { وأن الله } بجلاله وعظمته { سميع } لما يمكن أن يسمع { بصير* } أي مبصر عالم لما يمكن أن يبصر دائم الاتصاف بذلك فهو غير محتاج إلى سكون الليل ليسمع، ولا لضياء النهار ليبصر، لأنه منزه عن الأعراض، وهو لتمام قدرته وعلمه لا يخاف في عفوه غائلة، ولا يمكن أن يفوته أمر، أو يكون التقدير: ذلك النصر والعفو بأنه قادر وبأنه عالم.
ولما وصف نفسه سبحانه بما ليس لغيره فبان بذلك نقير ما سواه بفعله علله بقوله: { ذلك } أي الاتصاف بتمام القدرة وشمول العلم { بأن الله } الحاوي لصفات الكمال، القادر على إخراج المعدوم وتجديد ما فات، من نشر الأموات وغيره { هو } وحده { الحق } أي الواجب الوجود { وأن ما يدعون } أي دعاء عبادة وهم لا يسمعون.
ولما كان سبحانه فوق كل شيء بقهره وسلطانه، قال محقراً لهم: { من دونه } أي من هذه الأصنام وغيرها، ولم يتقدم هنا من الدليل على بطلان الأوثان مثل ما ذكره في لقمان الداعي الحال إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: { هو الباطل } لأنه ممكن وجوده وعدمه، فليس له من ذاته إلا العدم كغيره من الممكنات { وأن الله } لكونه هو الحق الذي لا كفوء له { هو } وحده { العلي الكبير* } وكل ما سواه سافل حقير، تحت قهره وأمره، فهو يحيي الموتى كما تقدم أول السورة.
ولما دل ما تضمنه رزقه سبحانه للميت في سبيله بقتل أو غيره على إحيائه له، ودل سبحانه على ذلك وعلى أنه خير الرازقين بما له من العظمة، وختم بهذين الوصفين، أتبعه دليلاً آخر على ذلك كله بآية مشاهدة جامعة بين العالم العلوي والسفلي قاضية بعلوه وكبره، فقال: { ألم تر } أي أيها المخاطب { أن الله } أي المحيط قدرة وعلماً { أنزل من السماء ماء } بأن يرسل رياحاً فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الملساء.
ولما كان هذا الاستفهام المتلو بالنفي في معنى الإثبات لرؤية الإنزال لكونه فيه معنى الإنكار، عطف على { أنزل } معقباً له على حسب العادة قوله، معبراً بالمضارع تنبيهاً على عظمة النعمة بطول زمان أثر المطر وتجدد نفعه: { فتصبح الأرض } أي بعد أن كانت مسودة يابسة، ميتة هامدة { مخضرة } حية يانعة، مهتزة نامية، بما فيه رزق العبادة، وعمار البلاد، ولم ينصب على أنه جوابه لئلا يفيد نفي الاخضرار، وذلك لأن الاستفهام من حيث فيه معنى الإنكار نفي لنفي رؤية الإنزال الذي هو إثبات الرؤية، فيكون ما جعل جواباً له منفياً، لأن الجواب متوقف على ما هو جوابه، فإذا نفى ما عليه التوقف انتفى المتوقف عليه، أي إذا نفى الملزوم انتفى اللازم، وإذا نفي السبب انتفى المسبب - كما تقدم "فتكون لهم قلوب" فلو نصب "يصبح" على أنه جواب الاستفهام لكان المعنى أن عدم الاخضرار متوقف على نفي النفي للإنزال الذي هو إثبات الإنزال، وهو واضح الفساد - أفاده شيخنا الإمام أبو الفضلرحمه الله .
ولما كان هذا إنتاجاً للأشياء من أضدادها، لأن كلاًّ من الماء في رقته وميوعه والتراب في كثافته، وجموده في غاية البعد عن النبات في تنوعه وخضرته، ونموه وبهجته، قال سبحانه وتعالى منبهاً على ذلك: { إن الله } أي الذي له تمام العز وكمال العلم { لطيف } أي يسبب الأشياء عن أضدادها { خبير* } أي مطلع على السرائر وإن دقت، فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، والإحسان في رزقه.