التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ
٣٠
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٣١
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ
٣٢
-المؤمنون

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت هذه القصة من أغرب القصص، حث على تدبرها بقوله: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم الذي ذكر من أمر نوح وقومه وكذا ما هو مهاد له { لآيات } أي علامات دالات على صدق الأنبياء في أن المؤمنين هم المفلحون، وأنهم الوارثون للأرض بعد الظالمين وإن عظمت شوكتهم، واشتدت صولتهم { وإن } أي وإنا بما لنا من العظمة { كنا } بما لنا من الوصف الثابت الدال على تمام القدرة { لمبتلين* } أي فاعلين فعل المختبر لعبادنا بإرسال الرسل ليظهر في عالم الشهادة الصالحُ منهم من غيره، ثم نبتلي الصالحين منهم بما يزيد حسناتهم، وينقص سيئاتهم، ويعلي درجاتهم، ثم نجعل لهم العاقبة فنبلي بهم الظالمين بما يوجب دمارهم، ويخرب ديارهم، ويمحو آثارهم، هذه عادتنا المستمرة إلى أن نرث الأرض ومن عليها فيكون البلاء المبين.
ولما بين سبحانه وتعالى تكذيبهم وما عذبهم به، وكان القياس موجباً لأن من يأتي يعدهم يخشى مثل مصرعهم، فيسلك غير سبيلهم، ويقول غير قيلهم، بين أنه لم تنفعهم العبرة، فارتكبوا مثل أحوالهم، وزادوا على أقوالهم وأفعالهم، لإرادة ذلك من الفاعل المختار، الواحد القهار، وأيضاً فإنه لما كان المقصود - مع التهديد والدلالة على القدرة والاختيار - الدلالة على تخصيص المؤمنين بالفلاح والبقاء بعد الأعداء، وكان إهلاك المترفين أدل على ذلك، اقتصر على ذكرهم وأبهمهم ليصح تنزيل قصتهم على كل من ادعى فيهم الإتراف من الكفرة، ويترجح إرادة عاد لما أعطوا مع ذلك من قوة الأبدان وعظم الأجسام، وبذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما، وإرادة ثمود لما في الشعراء والقمر مما يشابه بعض قولهم هنا، وللتعبير عن عذابهم بالصيحة ولموافقتهم لقوم نوح في تعليل ردهم بكونه بشراً، وطوى الإخبار عمن بعدهم بغير التكذيب والإهلاك لعدم الحاجة إلى ذكر شيء غيره، فقال: { ثم أنشأنا } أي أحدثنا وأحيينا وربينا بما لنا من العظمة. ولما لم يستغرقوا زمان البعد، أتى بالجار فقال: { من بعدهم قرناً } أي أمة وجيلاً. ولما كان ربما ظن ظان أنهم فرقة من المهلكين نجوا من عذاب سائرهم كما يكون في حروب سائر الملوك، عبر عن إنجائهم بإنشائهم، حقق أنهم أحدثوا بعدهم فقال: { آخرين فأرسلنا } أي فتعقب إنشاءنا لهم وتسبب عنه أن أرسلنا.
ولما كان المقصود الإبلاغ في التسلية، عدي الفعل بـ "في" دلالة على أنه عمهم بالإبلاغ كما يعم المظروف الظرف، حتر لم يدع واحداً منهم إلا أبلغ في أمره فقال: { فيهم رسولاً منهم } فكان القياس يقتضي مبادرتهم لاتباعه لعلمهم بما حل بمن قبلهم لأجل التكذيب، ولمعرفتهم غاية المعرفة لكون النبي منهم، بما جعلناه عليه المحاسن، وما زيناه به من الفضائل، ولأن عزه عزهم، ولدعائه لهم إلى ما لا يخفى حسنه على عاقل، ولا يأباه منصف؛ ثم بين ما أرسل به بقوله: { أن اعبدوا الله } أي وحده لأنه لا مكافىء له، ولذا حفظ اسمه فكان لا سمي له؛ ثم علل ذلك بقوله: { ما لكم } ودل على الاستغراق بقوله: { من إله غيره }.
ولما كانت المثلات قد دخلت من قبلهم في المكذبين، وأناخت صروفها بالظالمين، فتسبب عن عملهم بذلك إنكار قلة مبالاتهم في عدم تحرزهم من مثل مصارعهم، قال: { أفلا تتقون* } أي تجعلون لكم وقاية مما ينبغي الخوف منه فتجعلوا وقاية تحول بينكم وبين سخط الله.