التفاسير

< >
عرض

فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ بِٱلْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٤١
ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
٤٢
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ
٤٣
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ
٤٤
-المؤمنون

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تسبب عن دعائه أن تعقب هلاكهم، وعد الله له بذلك، قال تعالى: { فأخذتهم الصيحة } أي التي كأنها لقوتها لا صحية إلا هي، ويمكن أن تكون على بابها فتكون صيحة جبرئيل عليه الصلاة والسلام ويكون القوم ثمود، ويمكن أنت تكون مجازاً عن العذاب الهائل { بالحق } أي بالأمر الثابت من العذاب الذي أوجب لهم الذي لا تمكن مدافعته لهم ولا لأحد غير الله، ولا يكون كذلك إلا وهو عدل { فجعلناهم } بعظمتنا التي لا تدانيها عظمة، بسبب الصيحة { غثاء } كأنهم أعجاز نخل خاوية، جاثمين أمواتاً يطرحون كما يطرح الغثاء، وهو ما يحمله السيل من نبات ونحوه فيسود ويبلى فيصير بحيث لا ينتفع به، ونجينا رسولهم ومن معه من المؤمنين، فخاب الكافرون، وأفلح المؤمنون، وكانوا هم الوارثين للأرض من بعدهم.
ولما كان هلاكهم على هذا الوجه سبباً لهوانهم، عبر عنه بقوله: { فبعداً } أي هلاكاً وطرداً. ولما كان كأنه قيل: لمن؟ قيل: لهم! ولكنه أظهر الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف تحذيراً لكل من تلبس به فقال: { للقوم } أي الأقوياء الذي لا عذر لهم في التخلف عن اتباع الرسل والمدافعة عنهم { الظالمين* } الذين وضعوا قوتهم التي كان يجب عليهم بذلها في نصر الرسل في خذلانهم.
ولما كانت عادة المكذبين أن يقولوا تكذيباً: هذا تعريض لنا بالهلاك، فصرِّح ولا تدع جهداً في إحلاله بنا والتعجيل به إلينا، فإنا لا ندع ما نحن عليه لشيء، وكان العرب أيضاً قد ادعوا أن العادة بموتهم وإنشاء من بعدهم شيئاً فشيئاً لا تنخرم، قال تعالى رادعاً لهم: { ثم أنشأنا } أي بعظمتنا التي لا يضرها تقديم ولا تأخير، وأثبت الجار لما تقدم فقال: { من بعدهم } أي من بعد من قدمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده { قروناً آخرين } ثم أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي حده له بقوله: { ما تسبق } ولعله عبر بالمضارع إشارة إلى أنه ما كان شيء من ذلك ولا يكون، وأشار إلى الاستغراق بقوله: { من أمة أجلها } أي الذي قدرناه لهلاكها { وما يستأخرون* } عنه، وكلهم أسفرت عاقبته عن خيبة المكذبين وإفلاح المصدقين، وجعلهم بعدهم الوارثين، وعكس هذا الترتيب في غيرها من الآيات فقدم الاستئخار لنه فرض هناك مجيء الأجل فلا يكون حينئذ نظر إلا إلى التأخير.
ولما كان قد أملى لكل قوم حتى طال عليهم الزمن، فلما لم يهدهم عقولهم لما نصب لهم من الأدلة، وأسبغ عليهم من النعم، وأحل بالمكذبين قبلهم من النقم، أرسل فيهم رسولاً، دل على ذلك بأداة التراخي فقال: { ثم أرسلنا } أي بعد إنشاء كل قرن منهم وطول إمهالنا له، ومن هنا يعلم أن بين كل رسولين فترة، وأضاف الرسل إليه لأنه في مقام العظمة وزيادة في التسلية فقال: { رسلنا تترا } أي واحداً بعد واحد؛ قال الرازي: من وتر القوس لاتصاله. وقال البغوي: واترت الخبر: اتبعت بعضه بعضاً وبين الخبرين هنيهة. وقال الأصبهاني: والأصل: وترى، فقلبت الواو تاء كما قلبوها في التقوى. فجاء كل رسول إلى أمته قائلاً: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: { كلما جاء أمة } ولما كان في بيان التكذيب، اضاف الرسول إليهم، ذماً لهم لأن يخصوا بالكرامة فيأبوها ولقصد التسلية أيضاً فقال: { رسولها } أي بما أمرناه به من التوحيد.
ولما كان الأكثر من كل أمة مكذباً، أسند الفعل إلى الكل فقال: { كذبوه } أي كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك { فأتبعنا } القرون بسبب تكذيبهم { بعضهم بعضاً } في الإهلاك، فكنا نهلك الأمة كلها في آن واحد، بعضهم بالصيحة، وبعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بغير ذلك، فدل أخذنا لهم على غير العادة - من إهلاكنا لهم جميعاً وإنجاء الرسل ومن صدقهم والمخالفة بينهم في نوع العذاب - أنا نحن الفاعلون بهم ذلك باختيارنا لا الدهر، وأنا ما فعلنا ذلك إلا بسبب التكذيب.
ولما كانوا قد ذهبوا لم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم، جعلوا إياها، فقال: { وجعلناهم أحاديث } أي أخباراً يسمر بها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:

ولا شيء يدوم فكن حديثاً جميل الذكر فالدنيا حديث

ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم فقال: { فبعداً لقوم } أي أقوياء على ما يطلب منهم { لا يؤمنون* } أي لا يتجدد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة، لأنه لا مزاج لهم معتدل.