التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٨٨
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ
٨٩
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
٩٠
مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ ٱللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ
٩١
عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٩٢
-المؤمنون

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قررهم بالعالمين: العلوي والسفلي، أمره بأن يقررهم بما هو أعم منهما وأعظم، فقال: { قل من بيده } أي خاصة { ملكوت كل شيء } أي من العالمين وغيرهما، والملكوت الملك البليغ الذي لا نقص فيه بوجه؛ قال ابن كثير: كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً لا يخفر في جواره وليس لمن دونه أن يجيرعليه لئلا يفتات عليه. ولو أجار ما أفاد، ولهذا قال الله تعالى: { وهو يجير } أي يمنع ويغيث من يشاء فيكون في حرزه، لا يقدر أحد على الدنو من ساحتة { ولا يجار عليه } أي ولا يمكن أحداً أبداً أن يجير جواراً يكون مستعلياً عليه بأن يكون على غير مراده، بل يأخذ من أراد وإن نصره جميع الخلائق، ويعلي من أراد وإن تحاملت عليه كل المصائب، فتبين كالشمس أنه لا شريك يمانعه، ولا ولد يصانعه أو يضارعه؛ وقال ابن كثير: وهو السيد المعظم الذي لا أعظم منه الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولما كان هذا برهاناً مع أنه ظاهر لا يخفى على أحد، قد يمجمج فيه من له غرض في اللدد، ألهبهم إلى المبادرة إلى الاعتراف به وهيجهم بقوله: { إن كنتم } أي كوناً راسخاً { تعلمون* } أي في عداد من يعلم، ولذلك استأنف قوله: { سيقولون لله } أي الذي بيده ذلك، خاصاً به، والتقدير لغير البصريين: ذلك كله لله، لأن اليد أدل شيء على الملك.
ولما كان جوابهم بذلك يقتضي إنكار توقفهم في الإقرار بالبعث، استأنف قوله: { قل } منكراً عليهم تسبيب ذلك لهم ادعاء أنه سحر، أو صرف عن الحق كما يصرف المسحور { فأنّى تسحرون* } أي فكيف بعد إقراركم بهذا كله تدعون أن الوعيد بالبعث سحر في قولكم: أفتأتون السحر وأنتم تبصرون، ومن أين صار لكم هذا الاعتقاد وقد أقررتم بما يلزم منه شمول العلم وتمام القدرة؟ ومن أين تتخيلون الحق باطلاً، أو كيف تفعلون فعل المسحور بما تأتون به من التخطيط في الأقوال والأفعال، وتخدعون وتصرفون عن كل ما دعا إليه؟
ولما كان الإنكار بمعنى النفي، حسن قوله: { بل } أي ليس الأمر كما يقولون، لم نأتهم بسحر بل، أو يكون المعنى: ليس هو أساطير، بل { أتيناهم } فيه على عظمتنا { بالحق } أي الكامل الذي لا حق بعده، كما دلت عليه "ال" فكل ما أخبر به من التوحيد والبعث وغيرهما فهو حق { وإنهم لكاذبون* } في قولهم: إنه سحر لا حقيقة له، وفي كل ما ادعوه من الولد والشريك وغيرهما مما بين القرآن فساده كما لزمهم بما أقروا به في جواب هذه الأسئلة الثلاثة.
ولما كان من أعظم كذبهم ما أشار إليه قوله تعالى
{ { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً } } [مريم: 88] قال: { ما اتخذ الله } أي الذي لا كفوء له، وأعرق في النفي بقوله: { من ولد } لا من الملائكة ولا من غيرهم، لما قام من الأدلة على غناه، وأنه لا مجانس له، ولما لزمهم بإقرارهم أنه يجير ولا يجار عليه، وأن له السماوات والأرض ومن فيهما.
ولما كان الولد أخص من مطلق الشريك قال: { وما كان } أي بوجه من الوجوه { معه } فأفاد بفعل الكون نفي الصحة لينتفي الوجود بطريق الأولى { من إله } وزاد "من" لتأكيد النفي؛ ولما لزمهم الكذب في دعوى الإلهية بولد أو غيره من إقرارهم هذا، أقام عليه دليلاً عقلياً ليتطابق الإلزامي والعقلي فقال: { إذاً } أي إذ لو كان معه إله آخر { لذهب كل إله بما خلق } بالتصرف فيه وحده ليتميز ما له مما لغيره { ولعلا بعضهم } أي بعض الآلهة { على بعض } إذا تخالفت أوامرهم، فلم يرض أحد منهم أن يضاف ما خلقه إلى غيره، ولا أن يمضي فيه أمر على غير مراده، كما هو مقتضى العادة، فلا يكون المغلوب إلهاً لعجزه، ولا يكون مجيراً غير مجار عليه، بيده وحده ملكوت كل شيء، وفي ذلك إشارة إلى أنه لو لم يكن ذلك الاختلاف لأمكن أن يكون، فكان إمكانه كافياً في إبطال الشركة لما يلزم ذلك من إمكان العجز المنافي للإلهية، كما بين في الأنبياء.
ولما طابق الدليل الإلزام على نفي الشريك، نزه نفسه الشريفة بما هو نتيجة ذلك بقوله: { سبحان الله } أي المتصف بجميع صفات الكمال، المنزه عن كل شائبة نقص { عما يصفون* } من كل ما لا يليق بجنابه المقدس من الشريك والولد وغيره؛ ثم أقام دليلاً آخر على كماله بوصفه بقوله: { عالم الغيب } ولما كان العلم بذلك لا يستلزم علم الشهادة كما للنائم قال: { والشهادة } ولا عالم بذلك غيره.
ولما كان من الواضح الجلي أنه لا مدعي لذلك، ومن ادعاه غيره بأن كذبه لا محالة، وأن من تم علمه تمت قدرته، فاتضح تفرده كما بين في طه، تسبب عنه قوله: { فتعالى } أي علا العالم المشار إليه علواً عظيماً { عما يشركون* } فإنه لا علم لشيء منه فلا قدرة ولا صلاحية لرتبة الإلهية.