التفاسير

< >
عرض

قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ
٩٣
رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٩٤
وَإِنَّا عَلَىٰ أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ
٩٥
ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ
٩٦
وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ
٩٧
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ
٩٨
حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ
٩٩
لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٠٠
-المؤمنون

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أقام الدليل على كذبهم بالأدلة على عظمته، وتعاليه عن كل ما يقول الظالمون، وبين لهم الأمر غاية البيان بعد أن هددهم بمثل قوله وما يشعرون { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } ونحوه من مثل ما أنزله بالماضين، وأحله بالمكذبين، وكان من المعلوم أنه ليس بعد الإعذار إلا إيقاع القضاء وإنزال البلاء، وكان من الممكن أن يعم سبحانه الظالم وغيره بعذابه لأنه لا يسأل عما يفعل، أمره أن يتعوذ من ذلك إظهاراً لعظمة الربوبية ذل العبودية فقالك { قل رب } أي أيها المحسن إليّ، وأكد إظهاراً لعظمة المدعو به وإعلاماً بما للنبي صلى الله عليه وسلم من مزيد الشفقة على أمته مؤمنهم وكافرهم { إما تريني } أي إن كان ولا بد من أن تريني قبل موتي { ما يوعدون* } ثم نبهه على الزيادة في الضراعة بتكرير النداء بصفة الإحسان تعبداً وتخشعاً، وتذللاً وتخضعاً، إشارة إلى أن الله سبحانه له أن يفعل ما يشاء، فينبغي لأقرب خلقه إليه أن يكون على غاية الحذر منه فقال: { رب فلا تجعلني } بإحسانك إليّ وفضلك عليّ فيهم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعميماً للدعوة وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: { في القوم الظالمين* } أي الذين أعمالهم أعمال من يمشي في الظلام، فهي في غير مواضعها، فضلاً عن أن أكون منهم فإنه يوشك أن يخصهم العذاب ويعم من جاورهم لوخامة الظلم وسوء عاقبته.
ولما أرشد التعبير بأداة الشك إلى أن التقدير: فإنا على العفو عنهم وعلى الإملاء لهم لقادرون، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب المتضمن للطعن في القدرة وهم المقصودون بالتهديد: { وإنا } أي بما لنا من العظمة { على أن نريك } أي قبل موتك { ما نعدهم } من العذاب { لقادرون* } ولما لاح من هذا أن أخذهم وتأخيرهم في الإمكان على حد سواء، وكانوا يقولون ويفعلون ما لا صبر عليه إلا بمعونة من الله، كان كأنه قال: فماذا أفعل فيما تعلم من أمرهم؟ فقال آمراً له بمداواته: { ادفع } وفخم الأمر بالموصول لما فيه من الإيهام المشوق للبيان ثم بأفعل التفضيل فقال: { بالتي هي أحسن } أي من الأقوال والأفعال بالصفح والمداراة { السيئة } ثم خفف عنه ما يجد من ثقلها بقوله: { نحن أعلم } أي من كل عالم { بما يصفون* } في حقك وحقنا، فلو شئنا منعناهم منه أو عاجلناهم بالعذاب وليس أحد بأغير منا فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
ولما كان الصبر عليه لا يطاق إلا به سبحانه، أمره بالدعاء بذلك فقال: { وقل رب } أيها المحسن إليّ { أعوذ بك } أي ألتجىء إليك { من همزات الشياطين* } أي أن يصلوا إليّ بوساوسهم التي هي كالنخس بالمهماز في الإقحام في السيئات البعد عن مطلق الحسنات، فكيف بالأحسن منها كما سلطتهم على الكافرين تؤزهم إلى القبائح أزاً { وأعوذ بك رب } أي أيها المربي لي { أن يحضرون* } أي ولو لم تصل إليّ وساوسهم فإن حضورهم هلكة، وبعدهم بركة، لأنهم مطبوعون على الفساد لا ينفكون عنه.
ولما كان أضر أوقات حضورهم ساعة الموت، وحالة الفوت، فإنه وقت كشف الغطاء، عما كتب من القضاء، وآن اللقاء، وتحتم السفول أو الارتقاء، عقب ذلك بذكره تنبيهاً على بذل الجهد في الدعاء والتضرع للعصمة فيه فقال معلقاً بقوله تعالى: { بل لا يشعرون } أو بمبلسون، منبهاً بحرف الغاية على أنه سبحانه يمد في أزمانهم استدراجاً لهم: { حتى } أو يكون التقدير كما يرشد إليه السياق: فلا أكون من الكافرين المطيعين للشياطين حتى { إذا جاء } وقدم المفعول ليذهب الوهم في فاعله كل مذهب فقال: { أحدهم الموت } فكشف له الغطاء، وظهر له الحق، ولاحت له بوارق العذاب، ولم يبق في شيء من ذلك ارتياب { قال } مخاطباً لملائكة العذاب على عادة جهله ووقوفه مع المحسوس دأب البهائم: { رب ارجعون* } أي إلى الدنيا دار العمل؛ ويجوز أن يكون الجمع لله تعالى وللملائكة، أو للتعظيم على عادة في مخاطبات الأكابر لا سيما الملوك، أو لقصد تكرير الفعل للتأكيد.
ولما كان في تلك الحالة على القطع من اليأس من النجاة لليأس من العمل لفوات داره مع وصوله إلى حد الغرغرة قال: { لعلي أعمل } أي لأكون على رجاء من أن أعمل { صالحاً فيما تركت } من الإيمان وتوابعه؛ قال البغوي: قال قتادة: ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع ليعمل بطاعة الله، فرحم الله امرأً عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب. وقال ابن كثير: كان العلاء بن زياد يقول: لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل.
ولما كان القضاء قد قطع بأنه لا يرجع، ولو رجع لم يعمل قال ردعاً له ورداً لكلامه: { كلا } أي لا يكون شيء من ذلك، فكأنه قيل: فما حكم ما قال؟ فقال معرضاً عنه إيذاناً بالغضب: { إنها كلمة } أي مقالته { رب ارجعون } - إلى آخره، كلمة { هو قائلها } وقد عرف من الخداع والكذب فهي كما عهد منه لا حقيقة لها.
ولما كان التقدير: فهو لا يجاب إليها، عطف عليه قوله، جامعاً معه كل من ماثله لأن عجز الجمع يلزم منه عجز الواحد: { ومن ورائهم } أي من خلفهم ومن أمامهم محيط بهم { برزخ } أي حاجز بين ما هو فيه وبين الدنيا والقيامة مستمر لا يقدر أحد على رفعه { إلى يوم يبعثون* } أي تجدد بعثهم بأيسر أمر وأخفه وأهونه.