التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٣٩
-النور

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان كأنه قيل: فأي شيء يكون هذه المشكاة؟ قال شافياً على هذا السؤال: { في بيوت } أي في جدران بيوت، فجمع دلالة على أن المراد بالمشكاة الجنس لا الواحد، وفي وحدتها ووحدة آلات النور إشارة إلى عزته جداً { أذن الله } أي مكن بجلاله فأباح وندب وأوجب { أن ترفع } حساً في البناء، ومعنى بإخلاصها للعمل الصالح، من كل رافع أذن له سبحانه في ذلك، فعلى المرء إذا دخلها أن يتحصن من العدو بما رواه أبو دواد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم" قال عقبة بن مسلم: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر يوم. { ويذكر } من كل ذاكر أذن له سبحانه { فيها اسمه } أي ذكراً صافياً عن شوب، وخالصاً عن غش { يسبح } أي يصلي وينزه { له } أي خاصة { فيها بالغدو } أي الإبكار، بصلاة الصبح { والآصال* } أي العشيات، ببقية الصلوات، فيفتحون أعمالهم ويختمونها بذكره ليحفظوا فيما بين ذلك ويبارك لهم فيما يتقلبون فيه، وجمع الأصيل لتحقق أن المراد الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قال البغوي: لأن اسم الأصيل يجمعها. { رجال } أيّ رجال { لا تلهيهم تجارة } أي ببيع أو شرى أو غيرهما، يظهر لهم فيها ربح.
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه، قال: { ولا بيع } أي وإن لم يكن على وجه التجارة، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة { عن ذكر الله } أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها، فهم كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال { و } لا يلهيهم ذلك عن { إقام الصلاة } التي هي طهرة الأرواح، أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال - بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال { و } لا عن { إيتاء الزكاة } التي هي زكاء الأشباح ونماؤها، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" . والمخدع: الخزانة. وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير مساجد النساء قعر بيوتهن" . ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما "عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال:قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي" ، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.
ولما وصف الرجال المذكورين ما وصفهم به، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال: { يخافون يوماً } وهو يوم القيامة، هو بحيث { تتقلب فيه } أي لشدة هوله، تقلباً ظاهراً - بما اشار إليه إثبات التاءين { القلوب والأبصار* } أي بين طمع في النجاة، وحذر من الهلاك، ويمكن أن يقال: المشاكي - والله أعلم - هي المساجد، والزجاج هي الرجال، والمصابيح هي القلوب، وتلألؤها ما تشتمل عليه من المعاني الحاملة على الذكر، والشجرة الموصوفة هي مثال الأبدان، التي صفاها الله من الأدران، وطبعها على الاستقامة، والزيت مثال لما وضع سبحانه فيها من جميل الأسرار، وقد ورد في بعض الأخبار أن المساجد لأهل السماوات كالنجوم لأهل الأرض، وفي معجم الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كمشكاة" قال: جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه، والشجرة إبراهيم عليه السلام، { لا شرقية ولا غربية }: لا يهودي ولا نصراني.
ولما بين تعالى أفعال هؤلاء الرجال التي أقبلوا بها عليه، وأعرضوا عما عداه، بين غايتهم فيها فقال: { ليجزيهم } أي يفعلون ذلك ليجزيهم { الله } أي في دار كرامته بعد البعث بعظمته وجلاله، وكرمه. وجماله { أحسن ما عملوا } أي جزاءه. ويغفر لهم سيئه { ويزيدهم من فضله } على العدل من الجزاء ما لم يستحقوه - كما هي عادة أهل الكرم.
ولما كان التقدير: فإن الله لجلاله، وعظمته وكماله، لا يرضى أن يقتصر في جزاء المحسن على ما يستحقه فقط، عطف عليه بياناً لأن قدرته وعظمته لا حد لها قولَه: { والله } أي الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه { يرزق من يشاء }. ولما كان المعنى: رزقاً يفوق الحد، ويفوت العد، عبر عنه بقوله: { بغير حساب* } فهو كناية عن السعة، ويجوز أن يكون مع السعة التوفيق، فيكون بشارة بنفي الحساب في الآخرة أيضاً أصلاً ورأساً، لأن ذلك المرزوق لم يعمل ما فيه درك عليه فلا يحاسب، أو يحاسب ولا يعاقب؛ فيكون المراد بنفي الحساب نفي عسره وعقابه، ويجوز أن يزاد الرزق كفافاً، وقد ورد أنه لا حساب فيه؛ روى ابن كثير من عند ابن أبي حاتم بسنده عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق" .
ولما أخبر تعالى أن الذين اتبعوا نور الحق سبحانه، وصلوا - من جزائه بسبب ما هداهم إليه النور من الأعمال الصالحة - إلى حقائق هي في نفس الأمر الحقائق، أخبر عن أضدادهم الذين اتبعوا الباطل فحالت جباله الوعرة الشامخة بين أبصار بصائرهم وبين تلك الأنوار بضد حالهم فقال: { والذين كفروا } أي ستروا بما لزموه من الضلال ما انتشر من نور الله { أعمالهم } كائنة في يوم الجزاء { كسراب } وهو ما تراه نصف النهار في البراري لاصقاً بالأرض يلمع كأنه ماء، وكلما قربت منه بعد حتى تصل إلى جبل ونحوه فيخفى؛ قال الرازي في اللوامع: والسراب شعاع ينكشف فينسرب ويجري كالماء تخيلاً؛ وقال ابن كثير: يرى عن بعد كأنه بحر طام، وإنما يكون ذلك بعد نصفف النهار، وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض - انتهى. وقال البغوي: والآل ما ارتفع عن الأرض، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة، يرفع فيه الشخوص، يرى فيه الصغير كبيراً، والقصير طويلاً، والرقراق يكون بالعشايا، وهو ما ترقرق من السراب، أي جاء وذهب. { بقيعة } جمع قاع، وهو أرض سهلة مطمئنة فد انفرجت عنها الجبال والآكام - قاله في القاموس. وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه: القيعة والقاع واحد، وهما الأرض المستوية الملساء يحفن فيها التراب، الفراء: القيعة جمع قاع كجار وجيرة. وقال الصغاني في مجمع البحرين: والقاع: المستوي من الأرض، والجمع أقواع وأقوع وقيعان، صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها، والقيعة مثل قاع، وهو أيضاً من الواو، وبعضهم يقول: هو جمع؛ وقال ابن جرير: والقاع ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب. وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: قال الفراء: القاع: مستنقع الماء، والقاع: المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه المطر فيمسكه ويستوي نباته، وجمعه قيعة وقيعان.
{ يحسبه الظمآن } أي العطشان الشديد العطش من ضعف العقل { ماء } فيقصده ولا يزال سائراً { حتى إذا جاءه } أي جاء الموضع الذي توهمه به { لم يجده شيئاً } من الأشياء، فلم يفده قصده غير زيادة العطش بزيادة التعب، وبعده عن مواطن الرجاء، فيشتد بأسه، وتنقطع حليه فيهلك، وهكذا الكافر يظن أعماله تجديه شيئاً فإذا هي قد أهلكته.
ولما كان الله محيطاً بعلمه وقدرته بكل مكان قال: { ووجد الله } أي قدرة المحيط بكل شيء { عنده } أي عند ذلك الموضع الذي قصده لما تخيل فيه الخير فخاب ظنه { فوفاه حسابه } أي جزاء عمله على ما تقتضيه أعماله على حكم العدل، فلم يكفِ هذا الجاهل خيبة وكمداً أنه لم يجد ما قصده شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى نار، لا يفك أسيرها، ولا يخمد سعيرها.
ولما كان سبحانه لا يحتاج إلى كاتب، ولا يدخل عليه لبس، ولا يصعب عليه ضبط شيء وإن كثر، ولا يقد أحد أن يتأخر عما يريده به بنوع حيلة، عبر عن ذلك بقوله: { والله } أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل { سريع الحساب* } أي لأنه لا يحتاج إلى حفظ بقلب، ولا عقد بأصابع، ولا شيء غير ذلك، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وبعد عمله له، لا يعزب عنه منه ولا من غيره شيء.