التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٥٦
-النور

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نبه على خداعهم، أشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم، وإلى قبول شهادة التوسم فيهم، أمر بترغيبهم وترهيبهم، مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم فقال: { قل أطيعوا } أيها الذين أقروا بالإيمان { الله } أي الذي لم الكمال المطلق { وأطيعوا الرسول } أي لاذي له الرسالة المطلقة، ظاهراً وباطناً لا كالمنافقين { فإن تولوا } أي توجد منكم التولية عن ذلك عصياناً له ولو على أدنى وجوه التولية - بما أشار إليه حذف التاء، تضلوا فلا تضروا إلا أنفسكم، وهو معنى قوله: { فإنما عليه } أي الرسول { ما حمل } أي من التبليغ ممن إذا حمل أحداً شيئاً فلا بد من حمله له أو حمل ما هو أثقل منه { وعليكم ما حملتم } من القبول، وليس عليه أن يقسركم على الهداية؛ وأفهم بقوله: { وإن تطيعوه } أي بالإقبال على كل ما يأمركم به { تهتدوا } أي إلى كل خير أنه لا هداية لهم بدون متابعته؛ روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر: "من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب" قال: فقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عليكم بالسواد الأعظم! قال فقال رجل: ما السواد الأعظم؟ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور { فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم }.
ولما كان ما حمله الرسول صلى الله عليه وسلم مبهماً، عينه بقوله: { وما على الرسول } أي من جهة غيره { إلا البلاغ المبين* } أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أنواع الزواجر.
ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين لئلا يقول الناس: إن محمداً استنصر بقوم، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم. فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر؟ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله: بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا: { وعد الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { الذين آمنوا } وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله: { منكم } تصريحاً بأهل القرن الأول، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين بالإعراض، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة؛ وقدم هذا القيد اهتماماً به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح { وعملوا } تصديقاً لإيمانهم { الصالحات } من الإذعان للأحكام وغيرها، وأكد غاية التأكيد بلام القسم، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال: { ليستخلفنهم في الأرض } أي أرض العرب والعجم، بأن يمد زمانهم، وينفذ أحكامهم { كما استخلف } أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم { الذين من قبلهم } أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } وكما قال موسى عليه السلام: { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } { وليمكنن لهم } أي في الباطن والظاهر { دينهم } أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه أبديّ لا ينسخ { الذي ارتضى لهم } حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا، لا يراعون أحداً، ولا يخافون لومة لأئم، لأنه لا يضره إذ ذاك إدباراً مدبر كما قال صلى الله عليه وسلم عن الحرورية كافة
"إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، بعد أن كف عن قتل رأسهم ونهى عن قتله - وهو واحد في غزوة حنين" .
ولما بشرهم بالتمكين، أشار لهم إلى مقداره بقوله: { وليبدلنهم } وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال: { من بعد خوفهم } هذا الذي هم فيه الآن { أمناً } أي عظيماً بمقدار هذا الخوف، في زمن النبوة وخلافتها؛ ثم أتبع ذلك نتيجته بقوله تعليلاً للتمكين وما معه: { يعبدونني } أي وحدي؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله: { لا يشركون بي شيئاً } ظاهراً ولا باطناً، لأن زمانهم يكون زمن عدل، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم المدينة، وآوتهم الأنصار - رضي الله عنهم أجمعين، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت { ليستخلفنهم في الأرض } الآية. ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً - ففتح سبحانه لهم البلاد، ونصرهم على جبابرة العباد، فأذلوا رقاب الأكاسرة، واستعبدوا أبناء القياصرة، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صلى الله عليه وسلم "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" . يعرف ذلك من طالع فتوح البلاد، وأجمعها وأحسنها النصف الثاني من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي، وكتاب شيخه ابن حبيش أيضاً جامع، ولا أعلم شيئاً أنفع في رسوخ الإيمان، بعد حفظ القرآن، من مطالعة السير والفتوح، وسيرة الكلاعي جامعة للأمرين، ونظمي للسيرة في القصيدة التي أولها:

ما بال جفنك هامي الدمع هامره وبحر فكرك وافي الهم وافره

أجمع السير - يسر الله إكمال شرحها، آمين.
ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما، نزع الله ذلك الأمن كما أشير إليه بـ "من" وتنكير "أمناً" وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم - والله المستعان.
ولما كان التقدير: فمن ثبت على دين الإسلام، وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى، عطف عليه قوله: { ومن كفر } أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها؛ أو هو عطف على { يعبدونني } لأن معناه: ومن لم يعبدني.
ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك، أسقط الجار فقال: { بعد ذلك } أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح { فأولئك } البعداء من الخير { هم } خاصة { الفاسقون* } أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً، لا تقبل معه معذرة، ولا تقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى فيهم ملام، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة.
ولما تمت هذه البشرى، وكان التقدير: فاعملوا واعبدوا، عطف عليه قوله: { وأقيموا الصلاة } أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم، مع أنه يصح عطفه على قوله "أطيعوا الله" فيكون من مقول { قل } { وآتوا الزكاة } فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم { وأطيعوا الرسول } أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به، فإنما هو عن أمر ربكم { لعلكم ترحمون* } أي لتكونوا عند من يجهل العواقب على رجاء من حصول الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره.