التفاسير

< >
عرض

فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً
١٩
وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي ٱلأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً
٢٠
وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا لَقَدِ ٱسْتَكْبَرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً
٢١
يَوْمَ يَرَوْنَ ٱلْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَىٰ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً
٢٢
-الفرقان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا أمراً واقعاً لا محالة، التفت إليهم مبكتاً فقال معبراً بالماضي بعد "قد" المقربة المحققة: { فقد كذبوكم } أي المعبودون كذبوا العابدين بسبب إلقائهم السلم المقتضي لأنهم لا يستحقون العبادة وأنهم يشفعون لكم مقهورين مربوبين { بما } أي بسبب ما { تقولون } أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة، وأنهم يشفعون لكم، وأنهم أضلوكم، وفي قراءة ابن كثير بالتحتانية المعنى: بما يقول المعبودون من التسبيح لله والإذعان، في ادعائكم أنهم أضلوكم.
ولما تسبب عن إلقائهم السلم وتخليهم عمن عبدهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر، قال: { فما تستطيعون } أي المعبودون { صرفاً } أي لشيء من الأشياء عن أحد من الناس، لا أنتم ولا غيركم، من عذاب ولا غيره، بوجه حيلة ولا شفاعة ولا مفاداة { ولا نصراً } بمغالبة، وهو نحو قوله تعالى
{ { فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً } [الإسراء: 56].
ولما كان التقدير: فمن يعدل منكم لسماع هذا الوعظ بوضع العبادة في موضعها نثبه ثواباً جليلاً، عطف عليه ما المقام له فقال: { ومن يظلم منكم } بوضعها في غير موضعها، وباعتقاده في الرسل ما لا ينبغي من أنه لا ينبغي لهم أن يكونوا مثل الناس في أكل ولا طلب معيشة ونحو ذلك { نذقه } في الدنيا والآخرة، بما لنا من العظمة { عذاباً كبيراً* }.
ولما أبطل سبحانه ما وصموا به رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر ما جزاهم عليه. وما أعد لهم وله ولأتباعه، ونفى ما زعموه في معبوداتهم وختمه بتعذيب الظالم، ذكر ما ظلموا فيه من قولهم { ما لهذا الرسول } ونحوه، فبين أن ما جعلوه من ذلك وصمة في حقه هو سنته سبحانه في الرسل من قبله أسوة لنوعهم البشري، وأتبعه سره فقال زيادة في التسلية والتعزية والتأسية: { وما أرسلنا } بما لنا من العظمة. ولما كان المراد العموم، أعراه من الجار فقال: { قبلك } أي يا محمد أحداً { من المرسلين إلا } وحالهم { إنهم ليأكلون الطعام } ما نأكل ويأكل غيرك من الآدميين { ويمشون في الأسواق } كما تفعل ويفعلون أي إلا وحالهم الأكل والمشي لطلب المعاش كحال سائر الآدميين، وهو يعلمون ذلك لما سمعوا من أخبارهم، وهذا تأكيد من الله تعالى فإنهم لا يكذبونه عليه الصلاة والسلام، ولا يعتقدون فيه نقصاً، وإبطال لحجتهم بما قالوه من ذلك، وإقامة للحجة على عنادهم، وأنهم إنما يقولونه وأمثاله لمما تقدم من رسوخ التكذيب بالساعة في أنفسهم { وجعلنا } أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة { بعضكم لبعض فتنة } بأن جعلنا هذا نبياً وخصصناه بالرسالة، وهذا ملكاً وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيراً وحرمناه الدنيا، ليظهر ما نعلمه من كل من الطاعة والمعصية في عالم الغيب للناس في عالم الشهادة، فنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني أو جزعه، والملك ومن في معناه من الأشراف بصبرهم على ما أعطيه الرسول من الكرامة والبلوغ بالقرب من الله إلى ما لا يبلغونه مع ما هم فيه من العظمة، فلأجل ذلك لم أعط رسولي الدنيا، وجعلته ممن يختار العبوديه والكفاف بطلب المعاش في الأسواق، لأبتليكم في الطاعة له خالصة، فإني لو أعطيته الدنيا، وجعلته ممن يختار الملك، لسارع الأكثر إلى اتباعه طمعاً في الدنيا، وهذا معنى { أتصبرون } فإنه علة ما قبله، أي لنعلم علم شهادة هل تصبرون فيما امتحناكم به أم لا؟ كما كنا نعلمه علم الغيب، لتقوم عليكم بذلك الحجة في مجاري عاداتكم، وفيها مع العلية تهديد بليغ لمن تدبر، ويجوز أن يكون الاستفهام استئنافاً للتهديد.
ولما كان الاختبار ربما أوهم نقصاً في العلم، وكان إحسانه سبحانه إلى جميع الخلق دون إحسانه إلى سيدهم وعينهم، وخلاصتهم وزينهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أعلمهم بتنزيهه وتعظيمه، وكان امتحانهم بجعله نبياً عبداً مع كونه في غاية الإكرام له ربما ظنوه إهانة، نفى ما لعله يوهمه كل من الاستفهام والامتحان في حق الله سبحانه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال صارفاً وجه الخطاب إليه: { وكان ربك } أي المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك، لا سيما بجعلك نبياً عبداً { بصيراً* } بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان، لم يفده ذلك علماً لم يكن، وهو سبحانه يضع الأمور في حاق مواضعها وإن رئي غير ذلك، فينبغي على كل أحد التسليم له في جميع الأمور فإنه يجر إلى خير كبير، والتدبر لأقواله وأفعاله بحسن الانقياد والتلقي فإنه يوصل إلى علم غزير، وما أراد بابتلائك بهم وابتلائهم بك في هذا الأذى الكبير إلا إعلاء شأنك وإسفال أمرهم
{ { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ص: 88].
ولما ذكر هذا الابتلاء بعد أن ذكر أول السورة ما هو سبحانه عليه من العظمة من سعة الملك، وكثرة الصنائع، والإحسان إلى جميع الخلق، وكان من حق كل مربوب أن يتعرف إلى ربه، كائناً من كان، لا سيما إذا كان بهذه الصفة، لينال من إحسانه، ويتعزز به على أقرانه، أتبع ذلك أنه كشف الابتلاء عن أنه لا بصر لهم فقال تعالى: { وقال } وأظهر في موضع الإضمار الوصف الذي قدم أنه موجب لعماهم فقال: { الذين لا يرجون } أي ليست لهم عقول لكونهم نسوا { لقاءنا } فهم لا يعملون عملاً يطمعون في إثباتنا لهم عليه بعد الموت على ما يعلمون لنا من العظمة التي من رجاها كانت له فسعد، ومن أعرض عنها كانت عليه فهلك، فصارت لذلك عقولهم تبعاً لشهواتهم، فصاروا يتعرفون إلى جمادات سموها أربابهم، ويقصدونها ويتمسحون بها رجاء للمحال، والانهماك في الضلال، فذكر الرجاء لهذا الغرض مع أنه يلزمه عدم الخوف: { لولا } أي هلا ولم لا.
ولما كان مرادهم لجهلهم أن يروهم كلهم دفعة واحدة، عبر بالإنزال فقال: { أنزل } أي على أيّ وجه كان من أيّ منزل كان { علينا الملائكة } أي كما أنزلت عليه فيما يزعم { أو نرى ربنا } بما له إلينا من الإحسان وما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة.
ولما كان هذا القول مما لا ينبغي لبشر أن يجترىء عليه، لأن فيه اعتراضاً على من لا يحد وصف عظمته، ولا تدرك مقاصد حكمته، قال مصدراً بحرف التوقع لما أرشد إليه السياق جواباً لمن كأنه سأل: ما حالهم في هذا؟ { لقد } أي وعزتنا لقد { استكبروا } أي طلبوا بل أوجدوا الكبر. ولما لم يكن لكبرهم ثمرة في الظاهر، لأنه لا يعود بالضرر على أحد غيرهم، قال: { في أنفسهم } أي بطلب رؤية الملائكة.
ولما كان حاصل أمرهم أنهم طلبوا رتبة النبي الذي واسطته الملك، وزادوا عليه رؤية جميع الملائكة الآخذين عن الله، وزادوا على ذلك بطلب الرؤية، قال: { وعتو } أي وجاوزوا الحد في الاستكبار بما وراءه من طلبهم رؤية جميع الملائكة ورؤية الملك الجبار، وزاد في تأكيد هذا المعنى لاقتضاء المقام له بقوله: { عتواً كبيراً* } وبيان أنهم ما قالوا هذا إلا عتواً وظلماً أن ما جاءهم من الآيات التي أعظمها القرآن دلهم قطعاً بعجزهم عن الإتيان بشيء منه على صدقه صلى الله عليه وسلم عن الله في كل ما يقوله، وفي حسن هذا الاستئناف وفحوى هذا السياق دلالة على التعجب من غير لفظ تعجب فالمعنى: ما أشد استكبارهم وأكبر عتوهم! ثم بين لهم حالهم عند بعض ما طلبوا فقال: { يوم } وناصبه ما دل عليه "لا بشرى" { يرون الملائكة } أي يوم القيامة أو قبله في الغزوات أو عند الاحتضار { لا بشرى } أي من البشر أصلاً { يومئذ للمجرمين } أي لأحد ممن قطع ما أمر الله به أن يوصل، ولبيان ذلك أظهر موضع الإضمار { ويقولون } أي في ذلك الوقت: { حجراً محجوراً* } أي نطلب منعاً منكم ممنوعاً، أي مبالغاً في مانعيته، ويجوز أن يراد بالمفعول الفاعل، والمعنى واحد في أنهم يريدون أن يكون بينهم وبين الملائكة مانع عظيم يمنعهم منهم؛ قال أبو عبيدة: وهذا عوذة العرب، يقوله من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة وقال سيبويه: يريد البراءة من الأمر ويبعد عن نفسه أمراً، فكأنه قال: أحرم ذلك حراماً محرماً، ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجراً أي ستراً وبراءة من هذا، فهذا ينتصب على إضمار الفعل. وعبر بالمضارع إشارة إلى دوام تجديدهم لهذا القول بعد مفاجأتهم به حال رؤيتهم لهم لعظيم روعتهم منهم، بخلاف ما بعده فإنه عبر فيه بالماضي إشارة إلى أنه كائن لا محالة.