التفاسير

< >
عرض

قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٥٧
وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْحَيِّ ٱلَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً
٥٨
ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱلرَّحْمَـٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
٥٩
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُواْ وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً
٦٠
تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ فِي ٱلسَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً
٦١
-الفرقان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما وقع جوابهم عن قولهم { { لولا أنزل إليه ملك } [الفرقان: 7] وكان قد بقي قولهم { أو يلقى إليه كنز } [الفرقان: 8] أشير إلى مزيد الاهتمام بجوابه بإبرازه في صورة الجواب لمن كأنه قال: ماذا يقال لهم إذا تظاهروا وطعنوا في الرسالة بما تقدم وغيره؟ فقال: { قل } أي لهم يا أكرم الخلق حقيقة، وأعدلهم طريقة محتجاً عليهم بإزالة ما يكون موضعاً للتهمة: { ما أسألكم عليه } أي على الإبلاغ بالبشارة والنذارة { من أجر } لتتهموني أني أدعوكم لأجله، أو تقولوا: لولا ألقي إليه كنز ليغتني به عن ذلك، فكأنه يقول: الاقتصار عن التوسع في المال إنما يكره لمن يسأل الناس، وليس هذا من شيمي قبل النبوة فكيف بما بعدها؟ فلا غرض لي حينئذ إلا نفعكم. ثم أكد هذا المعنى بقوله، مستثنياً لأن الاستثناء معيار العموم: { إلا من } أي إلا أجر من { شاء أن يتخذ } أي يكلف نفسه ويخالف هواه ويجعل له { إلى ربه سبيلاً* } فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره، لا نفع لي من جهتكم إلا هذا، فإن سيتم هذا أجراً فهو مطلوبي، ولا مرية في أنه لا ينقص أحداً شيئاً من دنياه، فلا ضرر على أحد في طي الدنيا عني، فأفاد هذا فائدتين: إحداهما أنه لا طمع له أصلاً في شيء ينقصهم، والثانية إظهار الشفقة البالغة بأنه يعتد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثواباً لنفسه.
ولما كان المقصود ردهم عن عنادهم، وكان ذلك في غاية الصعوبة، وكان هذا الكلام لا يرد متعنتيهم - وهم الأغلب - الذين تخشى غائلتهم، عطف على "قل" قوله: { وتوكل } أي أظهر العجز والضعف واستسلم واعتمد في أمرك كله، ولا سيما في مواجهتهم بالإنذار، وفي ردهم عن عنادهم.
ولما كان الوكيل يحمل عن الموكل ثقل ما أظهر له عجزه فيه ويقوم بأعبائه حتى يصير كمن يحمل عن آخر عيناً محسوسة لا يصير له عليه شيء منها أصلاً، عبر بحرف الاستعلاء تمثيلاً لذلك فقال: { على الحي } ولا يصح التوكل عليه إلا بلزوم طاعته والإعراض عما سواها.
ولما كان الأحياء من الخلق يموتون، بين أن حياته ليست كحياة غيره فقال: { الذي لا يموت } أي فلا ضياع لمن توكل عليه أصلاً، بل هو المتولي لمصالحه في حياته وبعد مماته، ولا تلتفت إلى ما سواه بوجه فإنه هالك { وسبح بحمده } أي نزهه عن كل نقص مثبتاً له كل كمال.
ولما كان المسلى ربما وقع في فكره أن من سلاه إما غير قادر على نصره، أو غير عالم بذنوب خصمه، وكان السياق للشكاية من إعراض المبلغين عن القرآن، وما يتبع ذلك من الأذى، أشار بالعطف على غير مذكور إلى أن التقدير: فكفى به لك نصيراً، وعطف عليه: { وكفى } وعين الفاعل وحققه بإدخال الجار عليه فقال: { به بذنوب عباده } أي وكل ما سواهم عباده { خبيراً* } لا يخفى عليه شيء منها وإن دق، ثم وصفه بما يقتضي أنه مع ما له من عظيم القدرة بالملك والاختراع - متصف بالأناة وشمول العلم وحسن التدبير ليتأسى به المتوكل عليه فقال: { الذي خلق السماوات والأرض } أي على عظمهما { وما بينهما } من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها
{ ألا يعلم من خلق } [الملك: 14] وقوله: { في ستة أيام } تعجيب للغبي الجاهل، تدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله في دعوتهم إلى الله، وتذكير بما له من عظيم القدرة وما يلزمها من شمول العلم، والمراد مقدار ستة من أيامنا، فإن الأيام ما حدثت إلا بعد خلق الشمس، والإقرار بأن تخصيص هذا العدد لداعي حكمة عظيمة، وكذا جميع أفعاله وإن كنا لا ندرك ذلك، هو الإيمان، وجعل الله الجمعة عيداً للمسلمين لأن الخلق اجتمع فيه بخلق آدم عليه السلام فيه في آخر ساعة.
ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: { ثم استوى على العرش } أي شرع في تدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، وهم وذنوبهم من جملته كما يفعل الملوك في ممالكهم، لا غفلة عنده عن شيء أصلاً، ولا تحدث فيه ذرة من ذات أو معنى إلا بخلق جديد منه سبحانه، رداً على من يقول من اليهود وغيرهم: إن ذلك إنما هو بما دبر في الأزل من الأسباب، وأنه الآن لا فعل له.
ولما كان المعصى إذا علم بعصيان من يعصيه وهو قادر عليه لم يمهله، أشار إلى أنه على غير ذلك، حاضاً على الرفق، بقوله: { الرحمن } أي الذي سبقت رحمته غضبه، وهو يحسن إلى من يكفره، فضلاً عن غيره، فأجدر عباده بالتخلق بهذا الخلق رسله، و الحاصل أنه أبدع هذا الكون وأخذ في تدبيره بعموم الرحمة في إحسانه لمن يسمعه يسبّه بالنسبة له إلى الولد، ويكذبه في أنه يعيده كما بدأه، وهو سبحانه قادر على الانتقام منه بخلاف ملوك الدنيا فإنهم لا يرحمون من يعصيهم مع عجزهم.
ولما كان العلم لازماً للملك، سبب عن ذلك قوله على طريق التجريد: { فاسأل به } أي بسبب سؤالك إياه { خبيراً } عن هذه الأمور وكل أمر تريده ليخبرك بحقيقة أمره ابتداء وحالاً ومآلاً، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إليهم إلا وهو عالبم بهم، فسيعلي كعبك عليهم، ويحسن لك العاقبة.
ولما ذكر إحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم فقال: { وإذا قيل لهم } أي هؤلاء الذين يتقلبون في نعمه، ويغذوهم بفضله وكرمه، من أيّ قائل كان: { اسجدوا } أي اخضعوا بالصلاة وغيرها { للرحمن } الذي لا نعمة لكم إلا منه { قالوا } قول عال متكبر كما تقدم في معنى { ظهيراً }: { وما الرحمن } متجاهلين عن معرفته فضلاً عن كفر نعمته معبرين بأداة ما لا يعقل، وقال ابن العربي: إنهم إما عبروا بذلك إشارة إلى جهلهم الصفة، دون الموصوف. ثم عجبوا من أمره بذلك منكرين عليه، بقولهم: { أنسجد لما تأمرنا } فعبروا عنه بعد التجاهل في أمره والإنكار على الداعي إليه أيضاً بأداة ما لا يعقل { وزادهم } هذا الأمر الواضح المقتضي للإقبال والسكون شكراً للنعم وطمعاً في الزيادة { نفوراً* } لما عندهم من الحرارة الشيطانية التي تؤزهم أزاً، فلا نفرة توازي هذه النفرة، ولا ذم أبلغ منه.
ولما ذكر حال النذير الذي ابتدأ به السورة في دعائه إلى الرحمن الذي لو لم يدع إلى عبادته إلا رحمانيته لكفى، فكيف بكل جمال وجلال، فأنكروه، اقتضى الحال أن يوصل به إثباته بإثبات ما هم عالمون به من آثار رحمانيته، ففصل ما أجمل بعد ذكر حال النذير، ثم من الملك، مصدراً له بوصف الحق الذي جعله مطلع السورة راداً لما تضمن إنكارهم من نفيه فقال: { تبارك } أي ثبت ثباتاً لا نظير له { الذي جعل في السماء } التي قدم أنه اخترعها { بروجاً } وهي اثنا عشر برجاً، هي للكواكب السيارة كالمنازل لأهلها، سميت بذلك لظهورها، وبنى عليها أمر الأرض، دبر بها فصولها، وأحكم بها معايش أهلها.
ولما كانت البروج على ما تعهد لا تصلح إلا بالنور، ذكره معبراً بلفظ السراج فقال: { وجعل فيها } أي البروج { سراجاً } أي شمساً، وقرأ حمزة والكسائي بصيغة الجمع للتنبيه على عظمته في ذلك بحيث إنه أعظم من ألوف ألوف من السرج، فهو قائم مقام الوصف كما قال في الذي بعده: { وقمراً منيراً* } أتم - بتنقلهما فيها وبغير ذلك من أحوالهما - التدبير، أي أن العلم بوجوبه لا شك فيه، فكيف يشك عاقل في وجوده أو في رحمانيته بهذا العالم العظيم المتقن الصنع الظاهر فيه أمر الرحمانية.