التفاسير

< >
عرض

طسۤمۤ
١
تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
٣
إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
٤
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ
٥
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

{ طسم* } لعله إشارة إلى الطهارة الواقعة بذي طوى من طور سيناء وطيبة ومكة وطيب ما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم مما يجمع ذلك كله - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يرشد إلى ذلك، وإلى خلاص بني إسرائيل بما سمعه موسى عليه السلام من الكلام القديم، وبإتمام أمرهم بتهيئتهم للملك بإغراق فرعون وجنوده ونصرهم على من ناوأهم في ذلك الزمان بعد تطهيرهم بطول البلاء الذي أوصلهم إلى ذل العبودية، وذلك كله إشارة إلى تهديد قريش بأنهم إن لم يتركوا لددهم فعل بهم ما فعل بفرعون وجنوده من الإذلال بأي وجه أراد. وخلص عباده منهم، وأعزهم على كل من ناوأهم.
ولما فرق سبحانه في تلك بين الدين الحق والمذهب الباطل، وبين ذلك غاية البيان، وفصل الرحمن من عباد الشيطان، وأخبر أنه عم برسالته صلى الله عليه وسلم جميع الخلائق، وختم بشديد الإنذار لأهل الإدبار، بعد أن قال { فقد كذبتم } وكان حين نزولها لم يسلم منهم إلا القليل، وكان ذلك ربما أوهم قرب إهلاكهم وإنزال البطش بهم، كما كان في آخر سوة مريم، وأشارت الأحرف المقطعة إلى مثل ذلك، فأوجب الأسف على فوات ما كان يرجى من رحمتهم بالإيمان، والحفظ عن نوازل الحدثان، وكان ذلك أيضاً ربما أوجب أن يظن ظان، أن عدم إسلامهم لنقص في البيان، أزال ذلك سبحانه أول هذه فقال { تلك } أي الآيات العالية المرام، الحائزة أعلى مراتب التمام، المؤلفة من هذه الحروف التي تتناطقون بها وكلمات لسانكم { ءايات الكتاب } أي الجامع لكل فرقان { المبين* } أي الواضح في نفسه أنه معجز، وأنه من عند الله، وأن فيه كل معنى جليل، الفارق لكل مجتمع ملتبس بغاية البيان، فصح أنه كما ذكر في التي قبلها، فإن الإبانة هي الفصل والفرق، فصار الإخبار بأنه فرقان مكتنفاً الإنذار أول السورة التي قبلها وآخرها - والله الموفق.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما عرفت سورة الفرقان بشنيع مرتكب الكفرة المعاندين، وختمت بما ذكر من الوعيد، كان ذلك مظنة لإشفاقه عليه الصلاة والسلام وتأسفه على فوات إيمانهم، لما جبل عليه من الرحمة والإشفاق، فافتتحت السورة الأخرى بتسليته عليه الصلاة والسلام، وأنه سبحانه لو شاء لأنزل عليهم آية تبهرهم وتذل جبابرتهم فقال سبحانه { لعلك باخع نفسك } - الآيتين، وقد تكرر هذا المعنى عند إرادة تسليته عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى:
{ { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } } [الأنعام: 35]، { ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها } [السجدة: 13]، { { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } [يونس: 99]، { ولو شاء الله ما فعلوه } [الأنعام: 137] ثم أعقب سبحانه بالتنبيه والتذكير { أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم }، { وإذ نادى ربك موسى } وقلّما تجد في الكتاب العزيز ورود تسليته عليه السلام إلا معقبة بقصص موسى عليه السلام وما كابد من بني إسرائيل وفرعون، وفي كل قصة منها إحراز ما لم تحرزه الأخرى من الفوائد والمعاني والأخبار حتى لا تجد قصة تتكر وإن ظن ذلك من لم يمعن النظر، فما من قصة من القصص المتكررة في الظاهر إلا ولو سقطت أو قدر إزالتها لنقص من الفائدة ما لا يحصل من غيرها، وسيوضح هذا في التفسير بحول الله؛ ثم أتبع جل وتعالى قصة موسى بقصص غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أممهم على الطريقة المذكورة، وتأنيساً له عليه الصلاة والسلام حتى لا يهلك نفسه أسفاً على فوت إيمان قومه؛ ثم أتبع سبحانه ذلك بذكر الكتاب وعظيم النعمة به فقال { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون } فيا لها كرامة تقصر الألسن عن شكرها، وتعجز العقول عن تقديرها، ثم أخبر تعالى أنه { بلسان عربي مبين }، ثم أخبر سبحانه بعلى أمر هذا الكتاب وشائع ذكره على ألسنة الرسل والأنبياء فقال: { وإنه لفي زبر الأولين } وأخبر أن علم بني إسرائيل من أعظم آية وأوضح برهان وبينة، وأن تأمل ذلك كاف، واعتباره شاف، فقال: { أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } كعبد الله بن سلام وأشباهه، ثم وبخ تعالى متوقفي العرب فقال: { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } - الآية، ثم أتبع ذلك بما يتعظ به المؤمن الخائف من أن الكتاب - مع أنه هدى ونور - قد يكون محنة في حق طائفة كما قال تعالى: { { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [البقرة: 26]، { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [التوبة: 125] فقال تعالى في هذا المعنى { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } الآيات، ثم عاد الكلام إلى تنزيه الكتاب وإجلاله عن أن تتسور الشياطين على شيء منه أو تصل إليه فقال سبحانه { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون } أي ليسوا أهلاً له ولا يقدرون على استراق سمعه، بل هم معزولون عن السمع، مرجومون بالشهب، ثم وصى تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم - والمراد المؤمنون - فقال: { فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين } ثم أمره بالإنذار ووصاه بالصبر فقال: { وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ثم أعلم تعالى بموقع ما توهموه، وأهلية ما تخيلوه، فقال: { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم } ثم وصفهم، وكل هذا تنزيه لنبيه صلى الله عليه وسلم عما تقولوه، ثم هددكم وتوعدهم فقال: { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } - انتهى.
ولما كان قد قدم في تلك أنه عم برسالته جميع الخلائق، وختم بالإنذار على تكذيبهم في تخلفهم، مع إزاحة جميع العلل، نفي كل خلل، وكان ذلك مما يقتضي شدة أسفه صلى الله عليه وسلم على المتخلفين كما هو من مضمون { إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } على ما تقدم. وذلك لما عنده صلى الله عليه سلم من مزيد الشفقة، وعظيم الرحمة، قال تعالى يسليه، ويزيل من أسفه ويعزيه، على سبيل الاستئناف، مشيراً إلى أنه لا نقص في إنذاره ولا في كتابه الذي ينذر به يكون سبباً لوقوفهم عن الإيمان. وإنما السبب في ذلك محض إرادة الله تعالى: { لعلك باخع نفسك } أي مهلكها غمّاً. وقاتلها أسفاً، من بخع الشاة إذا بالغ في ذبحها حتى قطع البخاع، بكسر الموحدة، وهو عرق باطن في الصلب وفي القفا، وذلك أقصى حد الذابح، وهو غير النخاع بتثليث النون فإنه الخيط الأبيض في جوف الفقار { أن } أي لأجل أن { لا يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مؤمنين* } أي راسخين في الإيمان، فكان كأنه قيل: هذا الكتاب في غاية البيان في نفسه والإبانة للغير، وقد تقدم في غير موضع أنه ليس عليك إلا البلاغ، أتخاف وتشفق على نفسك من الهلاك عمّاً تأسفاً على عدم إيمانهم والحال أنا لو شئنا لهديناهم طوعاً أو كرهاً، والظاهر أن جملة الإشفاق في موضع حال من اسم الإشارة كما أن الآية التي بعدها في موضع الحال منها، أي نحن نشير إلى الآيات المبينة لمرادنا فيهم والحال أنك - لمزيد حرصك على نفعهم - بحال يشفق فيها عليك من لا يعلم الغيب من أن تقتل نفسك غمّاً لإبائهم الإيمان والحال أنا لو شئنا أتيناهم بما يقهرهم ويذلهم للإيمان وغيره.
ولا كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال: { إن نشأ } وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: { ننزل } إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت والقهر، قال: { عليهم } وقال محققاً للمراد: { من السمآء } أي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، أشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال: { آية } أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على { ننزل } لأنه في معنى { أنزلنا }: { فظلت } أي عقب الإنزال من غير مهلة { أعناقهم } التي هي موضع الصلابة، وعنها تنشأ حركات الكبر وألإعراض { لها } أي للآية دائماً، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة { خاضعين* } جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً، والأصل: فظلوا، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع فإنه يظهر لينها بعد صلابتها، وانكسارها بعد شماختها، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية، فكأن الفعل للأعناق لا لهم؛ والخضوع: التطامن والسكون واللين ذلاً وانكساراً { وما } أي هذه صفتنا والحال أنه ما { يأتيهم } أي الكفار { من ذكر } أي شيء من الوعظ والتذكير والتشريع يذكروننا به، فيكون سبب ذكرهم وشرفهم { من الرحمن } أي الذي أنكروه مع إحاطة نعمه بهم { محدث } أي بالنسبة إلى تنزيله وعلمهم به؛ وأشار إلى دوام كبرهم بقوله: { إلا كانوا } أي كوناً هو كالخلق لهم؛ وأشار بتقديم الجار والمؤذن بالتخصيص إلى ما لهم من سعة الأفكار وقوة الهمم لكل ما يتوجهون إليه، وإلى أن لإعراضهم عنه من القوة ما يعد الإعراض معه عن غيره عدماً فقال: { عنه } أي خاصة { معرضين* } أي إعراضاً هو صفة لهم لازمة.