التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
١١٧
فَٱفْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٨
فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
١١٩
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ
١٢٠
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ
١٢١
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٢
كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٢٣
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ
١٢٤
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
١٢٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
١٢٦
وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَىٰ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٢٧
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
١٢٨
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ
١٢٩
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أيس منهم بما سمع من المبالغة بالتأكيد في قولهم، ورأى بما يصدقه من فعلهم، قال تعالى مخبراً عنه جواباً لسؤال من يريد تعرف حاله بعد ذلك: { قال } شاكياً إلى الله تعالى ما هو أعلم به منه توطئة للدعاء عليهم وإلهاباً إليه وتهييجاً، معرضاً عن تهديدهم له صبراً واحتساباً، لأنه من لازم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتفاء عنه بسببه: { رب } أي أيها المحسن إليّ.
ولما كان الحال مقتضياً لأن يصدقوه لما له في نفسه من الأمانة، وبهم من القرابة، ولما أقام على ما دعاهم إليه من الأدلة مع ما له في نفسه من الوضوح، أكد الإخبار بتكذيبهم، إعلاماً بوجوده، وبإنه تحققه منهم من غير شك فقال: { إن قومي كذبون* } أي فلا نية لهم في اتباعي { فافتح } أي احكم { بيني وبينهم فتحاً } أي حكماً يكون لي فيه فرج، وبه من الضيق مخرج، فأهلك المبطلين وأنجز حتفهم { ونجني ومن معي } أي في الدين { من المؤمنين* } مما تعذب به الكافرين.
ولما كان في إهلاكهم وإنجائه من بديع الصنع ما يجل عن الوصف، أبرزه في مظهر العظمة فقال: { فأنجيناه ومن معه } أي ممن لا يخالفه في الدين على ضعفهم وقتلهم { في الفلك } ولما كانت سلامة المملوء جداً أغرب قال: { المشحون* } أي المملوء بمن حمل فيه من الناس والطير وسائر الحيوان وما حمل من زادهم وما يصلحهم.
ولما كان إغراقهم كلهم من الغرائب عظمه بأداة البعد - ومظهر العظمة فقال: { ثم أغرقنا بعد } أي بعد حمله الذي هو سبب إنجائه { الباقين* } أي من بقي على الأرض ولم يركب معه في السفينة على قوتهم وكثرتهم، وكان ذلك علينا يسيراً.
ولما كان ذلك أمراً باهراً، عظمه بقوله: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من الدعاء والإمهال ثم الإنجاء والإهلاك { لآية } أي عظيمة لمن شاهد ذلك أو سمع به، على أنا ننتقم ممن عصانا، وننجي من أطاعنا، وأنه لا أمر لأحد معنا فيهديه إلى الإيمان، ويحمله على الاستسلام والإذعان { وما } أي والحال أنه ما { كان أكثرهم } أي أكثر العالمين بذلك { مؤمنين* } وقد ينبغي لهم إذ فاتهم الإيمان لمحض الدليل أن يبادروا إليه ويركبوا معه حين رأوا أوائل العذاب أو بعد أن ألجمهم الغرق { وإن ربك } المحسن إليك بإرسالك، وتكثير أتباعك، وتعظيم أشياعك { لهو العزيز } أي القادر بعزته على كل من قسرهم على الطاعة، وإهلاكهم في أول أوقات المعصية { الرحيم* } أي الذي يخص من يشاء من عباده بخالص وداده، ويرسل إلى الضالين عن محجة العقل القويمة الرسل لبيان ما يجب وما يكره، فلا يهلك إلا بعد البيان الشافي، والإبلاغ الوافي.
ولما كان كأنه قيل: إن هذا لأمر هائل، في مثله موعظة، فما فعل من جاء بعدهم؟ هل اتعظ؟ أجيب بقوله دلالة على الوصفين معاً: { كذبت عاد } أي تلك القبيلة التي مكن الله لها في الأرض بعد قوم نوح { المرسلين* } بالإعراض عن معجزة هود عليه الصلاة والسلام؛ ثم سلى هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: { إذ } أي حين { قال لهم أخوهم هود } لم يتوقفوا في تكذيبه ولم يتأخروا عن وقت دعائه لتأمل ولا غيره، وقد عرفوا صدق إخائه، وعظيم نصحه ووفائه { ألا } بصيغة العرض تأدباً معهم وتلطفاً بهم ولينالهم { تتقون* } أي تكون منكم تقوى لربكم الذي خلقكم فتعبدوه وحده ولا تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع؛ ثم علل بقوله: { إني لكم رسول } أي فهو الذي حملني على أن أقول لكم ذلك { أمين } أي لا أكتم عنكم شيئاً مما أمرت به ولا أخالف شيئاً منه { فاتقوا } أي فتسبب عن ذلك أني أقول لكم: اتقوا { الله } الذي هو أعظم من كل شيء { وأطيعون* } أي في كل ما آمركم به من دوام تعظيمه { وما } أي أنا رسول داع والحال أني ما { أسئلكم عليه } أي الدعاء { من أجر } فتتهموني به { إن } أي ما { أجري إلا على رب العالمين* }.
ولما فرغ من الدعاء إلى الأصل، وهو الإيمان بالرسول والمرسل، أتبعه إنكار بعض ما هم عليه مما أوجبه الكفر، وأوجب الاشتغال به الثبات على الغي، واعظاً لهم بما كان لمن قبلهم من الهلاك، مقدمة على زيادة التأكيد في التقوى والطاعة لأن حالهم حال الناسي لذلك الطوفان، الذي أهلك الحيوان، وهدم البنيان فقال: { أتبنون بكل ريع } أي مكان مرتفع؛ قال أبو حيان: وقال أبو عبيدة: الريع الطريق. وقال مجاهد: الفج بين الجبلين، وقيل: السبيل سلك أم لم يسلك. وأصله في اللغة الزيادة { آية } أي علامة على شدتكم لأنه لو كان لهداية أو نحوها لكفى بعض الأرياع دون كلها.
ولما كان إقامة الدليل على قوتهم بمثل ذلك قليل الجدوى عند التأمل، قال: { تعبثون* } والعاقل ينبغي له أن يصون أوقاته النفيسة عن العبث الذي لا يكون سبب نجاته، وكيف يليق ذلك بمن الموت من ورائه.
ولما كان من يموت لا ينبغي له إنكار الموت بفعل ولا قول قال: { وتتخذون مصانع } أي أشياء بأخذ الماء، أو قصوراً مشيدة وحصوناً تصنعونها، هي في إحكامها بحيث تأكل الدهر قوة وثباتاً، فلا يبنيها إلا من حاله حال الراجي للخلود، ولذلك قال: { لعلكم تخلدون* } وهو معنى ما في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسيرها بكأنكم.