التفاسير

< >
عرض

قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
١١
قَالَ رَبِّ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ
١٢
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ
١٣
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ
١٤
قَالَ كَلاَّ فَٱذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ
١٥
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ
١٧
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ
١٨
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان كأنه قيل: أي قوم؟ قال مبدلاً إشارة أن العبارتين مؤداهما واحد لأنهم عريقون في الظلم، لظلمهم أنفسهم بالكفرة وغيره، وظلم بني إسرائيل وغيرهم من العباد: { قوم فرعون }.
ولما كان المقصود بالرسالة تخويفهم من الله تعالى، وإعلامهم بجلاله، استأنف قوله معلماً بذلك في سياق الإنكار عليهم، والإيذان بشديد الغضب منهم، والتسجيل عليهم بالظلم، والتعجيب من حالهم في عظيم عسفهم فيه، وأنه قد طال إمهاله لهم وهو لا يزدادون إلا عتواً ولزوماً للموبقات: { ألا يتقون* } أي يحصل منهم تقوى.
ولما كان من المعلوم أن من أتى الناس بما يخالف أهواءهم. لم يقبل، أخبر من تشوف إلى معرفة جوابه أنه أجاب بما يقتضي الدعاء بالمعونة، لما عرف من خطر هذا المقام، بقوله ملتفتاً إلى نحو
{ يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [الفرقان: 30] { قال رب } أي أيها الرفيق بي { إني أخاف أن يكذبون* } أي فلا يترتب على إتياني إليهم أثر، ويبغون لي الغوائل، فاجعل لي قبولاً ومهابة تحرسني بها ممن يريدني بسوء، ويجوز أن يريد بـ (أخاف) أعلم أو (أظن)، فيكون "أن" مخففة، فيكون الفعلان معطوفين على "يكذبون" في قراءة الجمهور بالرفع مع جواز العطف على (أخاف) فيكون التقدير: { و } أخاف أنه، أو قال: إني { يضيق صدري } عند تكذيبهم أو خوفي من تكذيبهم لي انفعالاً كما هو شأن أهل المروءات، وأرباب علو الهمم، لما غرز فيهم من الحدة والشدة في العزيمة إذا لم يجدوا مساغاً { ولا ينطلق } ونصب يعقوب الفعلين عطفاً على { يكذبون } على أن (أن) ناصبة { لساني } أي في التعبير عما ترسلني إليهم به، لما فيه من الحبسة في الأصل بسبب تعقده لتلك الجمرة التي لدغته في حال الطفولية، فإذا وقع التكذيب أو خوفه وضاق القلب، انقبض الروح إلى باطنه فازدادت الحبسة، فمست الحاجة إلى معين يقوي القلب فيعين على إطلاق اللسان عند الحبسة لئلا تختل الدعوة { فأرسل } أي فتسبب عن ذلك الذي اعتذرت به عن المبادرة إلى الذهاب عند الأمر أني أسألك في الإرسال { إلى هارون } أخي، ليكون رسولاً من عندك فيكون لي عضداً على ما أمضى له من الرسالة فيعين على ما يحصل من ذلك، وليس اعتذاره بتعلل في الامتثال، وكفى بطلب العون دليلاً على التقبل، لا على التعلل.
ولما ذكر ما تؤثره الرسالة، وقدم الإشارة إلى استكشافه لأنه أهم، أتبعه ما يترتب على مطلق التظاهر لهم فضلاً عن مواجهتهم بما يكرهون فقال: { ولهم عليّ } أي بقتلي نفساً منهم؛ وقال: { ذنب } وإن كان المقتول غير معصوم تسمية له بما يزعمونه، ولذلك قيده بـ "لهم" وأيضاً فلكونه ما كان أتاه فيه من الله تعالى أمر بخصوصه { فأخاف } بسبب ذلك { أن يقتلون } أي بذلك، مع ما أضمه إليه من التعرض لهم، فلا أتمكن من أداء الرسالة، فإذا كان هارون معي عاضدني في إبلاغها، وكل ذلك استكشاف واستدفاع للبلاء، واستعلام للعافية، لا توقف في القبول - كما مضى التصريح به في سورة طه.
ولما استشرفت النفس غلى معرفة جوابه عن هذه الأمور المهمة شفى عناءها بقوله، إعلاماً بأنه سبحانه استجاب له في كل ما سأل: { قال } قول كامل القدرة شامل العلم كما هو وصفه سبحانه: { كلا } أي ارتدع عن هذا الكلام، فإنه لا يكون شيء مما خفت، لا قتل ولا غيره - وكأنه لما كان التكذيب مع ما قام على الصدق من البراهين، المقوية لصاحبها، الشارحة لصدره، المعلية لأمره، عد عدماً - وقد أجبناك إلى الإعانة بأخيك { فاذهبا } أي أنت وهو متعاضدين، إلى ما أمرتك به، مؤيدين { بآياتنا } الدالة على صدقكما على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ ثم علل تأمينه له بقوله: { إنا } بما لنا من العظمة { معكم } أي كائنون عند وصولكما إليهم فيمن اتبعكما من قومكما؛ ثم أخبر خبراً آخر بقوله: { مستمعون* } أي سامعون بما لنا من العظمة في القدرة وغيرها من صفات الكمال، إلى ما تقولان لهم ويقولون لكما، فلا نغيب عنكم ولا تغيبون عنا، فنحن نفعل معكما من المعونة والنصر فعل القادر الحاضر لما يفعل بحبيبه المصغي له بجهده، ولذلك عبر بالاستماع؛ قال أبو حيان: وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع المثنى والخطاب لموسى وهارون فقط، لأن لفظة "مع" تباين من يكون كافراً، فإنه لا يقال: الله معه، وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبويه كأنهما لشرفهما عند الله تعالى عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزاً أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته - انتهى. وهو كلام نفيس مؤيد بتقديم الظرف، ويكون حينئذ خطابهما مشاكلاً لتعظيم المتكلم سبحانه نفسه، لأن المقام للعظمة، وعظمة الرسول من عظمة المرسل، على أنه يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البشارة بمن يتبعهما كما قدرته، ويجوز أن تكون المعية للكل كما في قوله تعالى:
{ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } [المجادلة: 7].
ولما نفى سبحانه أن يكون شيء مما خافه موسى عليه السلام على هذا الوجه المؤكد، وكان ظهور ذلك في مقارعة الرأس أدل وأظهر، صرح به في قوله: { فأتيا } أي فتسبب عن ذلك الضمان بالحراسة والحفظ أني أقول لكما: ائتيا { فرعون } نفسه، وإن عظمت مملكته، وجلّت جنوده { فقولا } أي ساعة وصولكما له ولمن عنده: { إنا رسول } أفرده مريداً به الجنس الصالح للاثنين، إشارة بالتوحيد إلى أنهما في تعاضدهما واتفاقهما كالنفس الواحدة، ولا تخالف لأنه إما وقع مرتين كل واحدة بلون، أو مرة بما يفيد التثنية والاتفاق، فساغ التعبير بكل منهما، ولم يثنّ هنا لأن المقام لا اقتضاء له للتنبيه على طلب نبينا صلى الله عليه وسلم المؤازرة بخلاف ما مر في سورة طه { رب العالمين* } أي المحسن إلى جميع الخلق المدبر لهم؛ ثم ذكر له ما قصد من الرسالة إليه فقال معبراً بأداة التفسير لأن الرسول فيه معنى الرسالة التي تتضمن القول: { أن أرسل } أي خلّ وأطلق؛ وأعاد الضمير على معنى رسول فقال: { معنا بني إسرائيل* } أي قومنا الذين استبعدتهم ظلماً، ولا سبيل لك عليهم، نذهب بهم إلى الأرض المقدسة التي وعدنا الله بها على ألسنة الأنبياء من آبائنا عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان من المعلوم أنهما امتثلا ما أمرهما الله، فأتياه وقالا له ما أمرا به، تشوفت النفس إلى جوابه لهما، فقال تعالى التفاتاً إلى مثل قوله في التي قبلها
{ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام } [الفرقان: 7] { وإن يتخذونك إلا هزواً } [الأنبياء: 36] ونحو ذلك تسلية لهذا النبي الكريم وتحقيقاً لمعنى قوله تعالى { كلا } و { مستمعون } من أن فرعون وإن بالغ في الإبراق والإرعاد لا يروع موسى عليه السلام شيء منه: { قال } أي فرعون حين أبلغاه الرسالة مخاطباً لموسى عليه السلام علماً منه أنه الأصل فيها، وأخوه إنما هو وزير، منكراً عليه مواجهته بمثل هذا ومانّاً عليه ليكف من جرأته بتصويب مثل هذا الكلام إليه: { ألم نربك } أي بعظمتنا التي شاهدتها { فينا وليداً } أي صغيراً قريب عهد بالولادة { ولبثت فينا } أي لا في غيرنا، باعتبار انقطاعك إلينا، وتعززك في الظاهر بنا { من عمرك سنين* } أي كثيرة، فلنا عليك بذلك من الحق ما ينبغي أن يمنعك من مواجهتنا بمثل هذا، وكأنه عبر بما يفهم النكد كناية عن مدة مقامه عنده بأنها كانت نكده لأنه وقع فيما كان يخافه، وفاته ما كان يحتاط به من ذبح الأطفال.