التفاسير

< >
عرض

وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ
١٩
قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالِّينَ
٢٠
فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢١
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
٢٢
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ
٢٣
قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ
٢٤
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ
٢٥
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكّره منة تحمله على الحياء منه، ذكّره ذنباً هو أهل لأن يخاف من عاقبته فقال مهولاً له بالكناية عنه: { وفعلت فعلتك } أي من قتل القطبي، ثم أكد نسبته إلى ذلك مشيراً إلى أنه عامله بالحلم تخجيلاً له فقال: { التي فعلت وأنت } أي والحال أنك { من الكافرين* } أي لنعمتي وحق تربيتي بقتل من ينسب إليّ، أو عده منهم لسكوته عنهم إذا ذاك، لأنه لم يكن قبل الرسالة مأموراً فيهم بشيء، فكان مجاملاً لهم، فكأنه قال: وأنت منا. فما لك الآن تنكر علينا وتنسبنا إلى الكفر؟ { قال } مجيباً له على طريق النشر المشوش، واثقاً بوعد الله بالسلامة مقراً بما دندن عليه من القتل لأنه لم يكن متحققاً لذلك، وما ترك قتله إلا التماساً للبينة: { فعلتها إذاً } أي إذ قتلته { وأنا من الضالين* } أي لا أعرف ديناً، فأنا واقف عن كل وجهة حتى يوجهني ربي إلى ما يشاء - قال ابن جرير: والعرب تضع الضلال موضع الجهل والجهل موضع الضلال - انتهى. وقد تقدم في الفاتحة للحرالي في هذا الكلام نفيس - على أن هذه الفعلة كانت مني خطأ { ففررت } أي فتسبب عن فعلها وتعقبه أني فررت { منكم } أي منك لسطوتك ومن قومك لإغرائهم إياك عليّ { لما خفتكم } على نفسي أن تقتلوني بذلك القتيل الذي قتلته خطأ مع كونه كافراً مهدر الدم { فوهب لي ربي } الذي أحسن إليّ بتربيتي عندكم تحت كنف أمي آمنة مما أحدثتم من الظلم خوفاً مني { حكماً } أي علماً أعمل به عمل الحكام الحكماء { وجعلني من المرسلين* } أي فاجهد الآن جهدك فإني لا أخافك لقتل ولا غيره.
ولما اجتمع في كلام فرعون منّ وتعيير، بدأ بجوابه عن التعيير لأنه الأخير فكان أقرب، ولأنه أهم، ثم عطف عليه جوابه عما منّ به، فقال موبخاً له مبكتاً منكراً عليه غير أنه حذف حرف الإنكار إجمالاً في القول وإحساناً في الخطاب: { وتلك } أي التربية الشنعاء العظيمة في الشناعة التي ذكرتنيها { نعمة تمنها عليّ }.
ولما كان سببها ظلمه لقومه، جعله نفسها فقال مبدلاً منها تنبيهاً على إحباطها، وإعلاماً بأنها - بكونها نقمة - أولى منها في عدها نعمة: { أن عبدت } أي تعبيدك وتذليلك على ذلك الوجه البديع المبعد قومي { بني إسرائيل* } أي جعلتهم عبيداً ظلماً وعدواناً وهو أبناء الأنبياء، ولسلفهم يوسف عليه السلام عليكم من المنة - بإحياء نفوسكم أولاً، وعتق رقابكم ثانياً - ما لا تقدرون له على جزاء أصلاً، ثم ما كفاك ذلك حتى فعلت ما لم يفعله مستعبد، فأمرت بقتل أبنائهم، فكان ذلك سبب وقوعي إليك لأسلم من ظلمك - كما مر بيانه ويأتي إن شاء الله تعالى مستوفى في سورة القصص.
ولما كلم اللئيم الذميم الكليم العظيم بما رجا أن يكفه عن مواجهته بما يكره، ويرجعه إلى مداراته. فلم يفعل، وفهم ما في جوابه هذا الأخير من الذم له والتعجيز، وإثبات القدرة التامة والعلم الشامل لله، بما دبر في أمر موسى عليه السلام، وأنه لا ينهض لذلك بجواب ولا يحمد له فيه قول، عدل عنه إلى جوابه عن الرسالة بما يموه به أيضاً على قومه لئلا يرجعوا عنه، فأخبر تعالى عن محاورته في ذلك بقوله على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما قال له جواباً لهذا الكلام، الذي كأنه السهام؟: { قال فرعون } حائداً عن جواب موسى عليه السلام لما فيه من تأنيبه وتعجيزه. منكراً لخالقه على سبيل التجاهل، كما أنكر هؤلاء الرحمن متجاهلين وهو أعرف الناس بغالب أفعاله، كما كان فرعون يعرف، لقول موسى عليه السلام
{ لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } [الإسراء: 102]: { وما رب العالمين* } أي الذي زعمت أنكما رسوله. فسأل بـ "ما" عن حقيقته وإنما أراد في الحقيقة إنكاره.
ولما كان تعريف حقيقته سبحانه بنفسها محالاً لعدم التركيب، فكان تعريفها لا يصح إلا بالخارج اللازم الجلي، تشوف السامع إلى ما يجيب به عنه، فاستأنف قوله إخباراً عنه: { قال } أي موسى معرضاً عن التعريف بغير الأفعال إعلاماً بأنه لا شبيه له، وأنه مباين وجوده لوجود كل شيء سواه، معرفاً له سبحانه بأظهر أفعاله مما لا يقدر أحد على ادعاء المشاركة فيه، مشيراً إلى خطابه في طلب الماهية بأنه لا مماثل له: أقول لك ولمن أردت بطلب الحقيقة التمويه عليهم: هو { رب } أي خالق ومبدع ومدبر { السماوات } كلها { والأرض } وإن تباعدت أجرامها بعضها عن بعض { وما بينهما } وذلك أظهر العالم الذي هو صنعته وأنتم غير مستغنين عنه طرفة عين، فهذه هي المنة، لا منتك عليّ بالتربية إلى حين استغنيت عنك، وهذا هو الاستبعاد بالإحسان، مع العصيان بالكفران، لا استبعادك لقومي بإهلاكهم وهم في طاعتك، ولسلفهم عليكم من المنة ما لا تجهلونه { إن كنتم } أي كوناً راسخاً { موقنين* } أي متصفين بما عليه أهل العلم بأصول الدين من الثقة بما تعتقدون اتصافاً ثابتاً، والجواب: علمتم ذلك، وعلمتم أنه لا جواب أسد منه، لأن المذكور متغير، فله مغير لا يتغير، وهو هذا الذي أرسلناه، أي إن كان لكم يقين فأنتم تعرفونه، لشدة ظهوره، وعموم نوره { قال } أي فرعون { لمن حوله } من أشراف قومه مموهاً أيضاً: { ألا تستمعون* } أي تصغون إليه بجميع جهدكم، وهو كلام ظاهره أنه نبههم عن الإنكار، لأنه سأل عن الماهية، فأجيب بغيرها، ويحتمل غير ذلك لو ضويق فيه، فهو من خفيّ مكره.