التفاسير

< >
عرض

وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِيۤ إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ
٥٢
فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ
٥٣
إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ
٥٤
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ
٥٥
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ
٥٦
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٥٧
وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ
٥٨
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قص سبحانه من حال الدعاء ما كفى في التسلية من قصد هذين النبيين بالأذى والتهكم بمن دعوا إليه، وجعلهما الأعليين، ولم يضرهما ضعفهما وقلتهما، ولا نفع عدوهما قوته وكثرته، شرع يسلي بما أوقعه في حال السير، فقال طاوياً ما بقي منه لأن هذا ذكّر به، عاطفاً على هذه القصة: { وأوحينا } أي بما لنا من العظمة حين أردنا فصل الأمر وإنجاز الموعود { إلى موسى أن أسر } أي سر ليلاً، حال اشتغال فرعون وجنوده بموت أبكارهم وتجهيزهم لهم { بعبادي } أي بني إسرائيل الذين كرمتهم مصاحباً لهم إلى ناحية بحر القلزم، غير مبال بفرعون ولا منزعج منه، وتزودوا اللحم والخبز الفطير للإسراع، وألطخوا أعتابكم بالدم، لأني أوصيت الملائكة الذين يقتلون الأبكار أن لا يدخلوا بيتاً على بابه دم؛ ثم علل أمر له بالسير في الليل بقوله: { إنكم متبعون* } أي لا تظن أنهم لكثرة ما رأوا من الآيات يكفون عن اتباعكم، فأسرع بالخروج لتبعدوا عنهم إلى الموضع الذي قدرت في الأزل أن يظهر فيه مجدي، والمراد توافيهم عند البحر، ولم يكتم اتباعكم عن موسى عليه السلام لعدم تأثره به لما تحقق عنده من الحفظ لما تقدم به الوعد الشريف بذلك التأكيد.
ولما كان التقدير: فأسرى بهم امتثالاً للأمر بعد نصف الليل، عطف عليه قوله: { فأرسل فرعون } أي لما أصبح وأعلم بهم { في المدائن حاشرين* } أي رجالاً يجمعون الجنود بقوة وسطوة وإن كرهوا، ويقولون تقوية لقلوبهم وتحريكاً لهممهم: { إن هؤلاء } إشارة بأداة القرب تحقيراً لهم إلى أنهم في القبضة وإن بعدوا، لما بهم من العجز، وبآل فرعون من القوة، فليسوا بحيث يخاف قوتهم ولا ممانعتهم { لشرذمة } أي طائفة وقطعة من الناس.
ولما كانت قلتهم إنما هي بالنسبة إلى كثرة آل فرعون وقوتهم وما لهم عليهم من هيبة الاستعباد، وكان التعبير بالشرذمة موهماً لأنهم في غاية القلة، أزال هذا الوهم بالتعبير بالجمع دون المفرد ليفيد أنه خبر بعد خبر، لا صفة، وأن التعبير بالشرذمة إنما هو للإشارة إلى تفرق القلوب، والجمع ولا سيما ما للسلامة مع كونه أيضاً للقلة أدل على أنهم أوزاع، وفيه أيضاً إشارة إلى أنهم مع ضعفهم بقلة العدد آيسون من إسعاف بمدد. وليس لهم أهبة لقتال لعدم العدة لأنهم لم يكونوا قط في عداد من يقاتل كما تقول لمن تزدريه: هو أقل من أن يفعل كذا، فقال: { قليلون* } أي بالنسبة إلى ما لنا من الجنود التي لا تحصى وإن كانوا في أنفسهم كثيرين، فلا كثرة لهم تمنعكم أيها المحشورون من اتباعهم؛ قال البغوي عن ابن مسعود رضي الله عنهما: كانوا ستمائة ألف وتسعين ألفاً، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون - انتهى. وكل هذا بيان لأن فرعون مع تناهي عظمته لم يقدر على أثرٍ ما في موسى عليه السلام ولا من اتبعه تحقيقاً لما تقدم من الوعد به أول القصة.
ولما ذكر ما يمنع الخوف من اتباعهم، ذكر ما يوجب الحث عليه ويحذر من التقاعس عنه فقال: { وإنهم لنا } ونحن على ما نحن عليه من الكثرة والعظمة { لغائظون* } أي بما فجعونا به من أنفسهم وما استعاروه من الزينة من أواني الذهب والفضة وفاخر الكسوة، فلا رحمة في قلوبكم تحميهم.
ولما كان مدار مادة "شرذم" على التقطع. فكان في التعبير بها إشارة إلى أنهم مع القلة متفرقون ليسوا على قلب واحد، وذكر أن في اتباعهم شفاء الغلل، أتبعه ما ينفي عن المتقاعد العلل، فقال: { وإنا لجميع } أي أنا وأنتم جماعة واحدة مجتمعون بإياله الملك على قلب واحد.
ولما أشار بهذا الخبر إلى ضد ما عليه بنو إسرائيل مع قلتهم مما هو سبب للجرأة عليهم، أخبر بخبر ثان يزيد الجرأة عليهم، وفي مضادة لما أشير إليه بـ "قليلون" من الاستضعاف فقال: { حاذرون* } أي ونحن - مع إجماع قلوبنا - من شأننا وطبعنا الحذر، فنحن لا نزال على أهبة القتال، ومقارعة الأبطال، لا عائق لنا عنه بسفر ولا بغيره، أما من جهتي فبإفاضة الأموال عليكم، وإدرار الأرزاق فيكم، ووضع الأشياء في مواضعها في الأرض والرجال، وأما من جهتكم فباستعمال الأمانة من طاعة الملك في وضع كل ما يعطيكم في مواضعه من إعداد السلاح والمراكب والزاد، وجميع ما يحتاج إليه المحارب، مع ما لكم من العزة والقوة وشماخة الأنوف وعظم النفوس مع الجرأة والإقدام والثبات في وقف الحقائق، المحفوظ بالعقل المحوط بالجزم المانع من اجتراء الأخصام عليكم، ومكرهم لديكم، فإنه يحكى أنه كان يتصرف في خراج مصر بأن يجزئه أربعة أجزاء: أحدها لوزرائه وكتابه وجنده، والثاني لحفر الأنهار وعمل الجسور، والثالث له ولولده، والرابع يفرق من مدن الكور، فإن لحقهم ظمأ أو استبحار أو فساد علة أو موت عوامل قوّاهم به؛ وري أنه قصده قوم فقالوا: نحتاج إلى أن نحفر خليجاً لنعمر ضياعنا، فإذن في ذلك واستعمل عليهم عاملاً فاستكثر ما حمل من خراج تلك الناحية إلى بيت المال، فسأل عن مبلغ ما أنفقوه على خليجهم، فإذا هو مائة ألف دينار، فأمر بحملها إليهم فامتنعوا من قبولها، فقال: اطرحوها عليهم، فإن الملك إذا استغن بمال رعيته افتقر وافتقروا، وأن الرعية إذا استغنت بمال ملكهم استغنى واستغنوا.
ولما كان التقدير: فأطاعوا أمره، ونفوا على كل صعب وذلول، عطف عليه قوله معلماً بما آل إليه أمرهم: { فأخرجناهم } أي بما لنا من القدرة، إخراجاً حثيثاً مما لا يسمح أحد بالخروج منه { من جنات } أي بساتين يحق لها أن تذكر { وعيون* } لا يحتاج معها إلى نيل ولا مطر { وكنوز } من الأموال تعرف بمقدار ما هم فيه من النعم الفاضلة عنهم، مع ما هم فيه من تمام الاستعداد لمثل هذا المراد { ومقام } من المنازل { كريم* } أي على صفة ترضي الرائي له لأنه على النهاية من الحسن لا يقال فيه: ليته كان كذا، أو كان كذا.