ولما أتم سبحانه هذه القصة المؤسسة على العلم المشيد بالحكمة المنبئة عن أن
المدعوين فيها أطبقوا على الاستسلام للدخول في الإسلام، مع أبالة الملك ورئاسة
العز، والقهر على يد غريب عنهم بعيد منهم، أتبعها قصة انقسم أهلها مع الذل والفقر
فريقين مع أن الداعي منهم لا يزول باتباعه شيء من العز عنهم، مع ما فيها من
الحكمة، وإظهار دقيق العلم بإبطال المكر، بعد طول الأناة والحلم، فقال تعالى مفتتحاً
بحرف التوقع والتحقيق لمن ظن أن هذا شأن كل رسول مع يدعوهم، عاطفاً على
{ ولقد آتينا داود }: { ولقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { إلى ثمود } ثم أشار إلى
العجب من توقفهم بقوله: { أخاهم صالحاً } فجمع إلى حسن الفعل حسن الاسم وقرب
النسب. ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن، وهو الاعتراف بالحق
لأهله، فقال: { أن اعبدوا الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له وحده، ولا تشركوا
به شيئاً ولا سيما شيئاً لا يضر بوجه ولا ينفع، بياناً لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام
متفقون على ذلك عربهم وعجمهم. ثم زاد في التعجيب منهم بما أشارت إليه الفاء وأداة
المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع فقال: { فإذا هم } أي ثمود
{ فريقان } ثم بين بقوله: { يختصمون* } أنها فرقة افتراق بكفر وإيمان، لا فرقة اجتماع
في هدى وعرفان، فبعضهم صدق صالحاً واتبعه كما مضى في الأعراف. وتأتي هنا
الإشارة إليه بقوله "وبمن معك" وبعضهم استمر على شركه وكذبه، وكل فريق يقول: أنا
على الحق وخصمي على الباطل. ثم استأنف بما أشار إليه حرف التوقع من شدة
التشوف قائلاً: { قال } أي صالح مستعطفاً في هدايته: { يا قوم } أي يا أولاد عمي ومن
فيهم كفاية للقيام بالمصالح { لم تستعجلون } أي تطلبون العجلة بالإتيان { بالسيئة } أي
الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر { قبل } الحالة { الحسنة }
من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان
بالأمر قبل الوقت المضروب له. واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء
{ ائتنا بما تعدنا } { لولا } أي هلا ولم لا { تستغفرون الله } أي تطلبون غفران الذي له
صفات الكمال لذنوبكم السالفة بالرجوع إيه بالتوبة بإخلاص العبادة له { لعلكم ترحمون* } أي لتكونوا على رجاء من أن تعاملوا من كل من فيه خير معاملة المرحوم بإعطاء
الخير والحماية من الشر، ثم استأنف حكاية جوابهم فقال: { قالوا } فظاظة وغلظة
مشيرين بالإدغام إلى أن ما يقولونه إنما يفهمه الحذاق بمعرفة الزجر وإن كان الظاهر
خلافه بما أتاهم به من الناقة التي كان في وجودها من البركة أمر عظيم؛ { اطيرنا } أي
تشاءمنا { بك وبمن معك } أي وهو الذين آمنوا بك، فإنه وقع بيننا بسببكم الخلاف،
وكثر القال والقيل والإرجاف، وحصلت لنا شدائد واعتساف، لأنا جعلناكم مثل الطائر
الذي يمر من جهة الشمال - على ما يأتي في الصافات { قال طائركم } أي ما تيمنون به
فيثمر ما يسركم، أو تتشاءمون به فينشأ عنه ما يسوءكم وهو عملكم من الخير أو الشر
{ عند الله } أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة، وليس شيء منه بيد غيره
ولا ينسب إليه، فإن شاء جعلنا سببه وإن شاء جعل غيرنا.
ولما كان معنى نسبته إلى الله أن هذا الذي بكم الآن من الشر ليس منا، قال:
{ بل أنتم قوم تفتنون* } أي تختبرون من الملك الأعلى بما تنسبونه إلى الطير من الخير
والشر، أي تعاملون به معاملة الاختبار هل تصلحون للخير بالرجوع عن الذنب فيخفف
عنكم أو لا فتمحنوا.
ولما أخبر عن عامة هذا الفريق بالشر، أخبر عن شرهم بقوله: { وكان في
المدينة } أي مدينتهم الحجر من عظماء القرية وأعيانها { تسعة رهط } أي رجال، مقابلة
لآيات موسى التسع.
ولما كان الرهط بمعنى القوم والرجال، أضيفت التسعة إليه، فكأنه قيل: تسعة
رجال، وإن كان لقوم ورجال مخصوصين، وهم ما بين الثلاثة أو السبعة إلى العشرة،
وما دون التسعة فنفر، وقال في القاموس: إن النفر ما دون العشرة غير أنه يفهم التفرق،
والرهط يفهم العظمة والشدة والاجتماع { يفسدون } وقال: { في الأرض } إشارة إلى
عموم فسادهم ودوامه.
ولما كان الكفرة كلهم مفسدين بالكفر، وكان بعضهم ربما كان يصلح في بعض
أفعاله، بين أن هؤلاء ليسوا كذلك، بل هم شر محض فحقق خلوصهم للفساد بقوله
مصرحاً بما أفهمته صيغة المضارع: { ولا يصلحون* }.
ولما اقتضى السياق السؤال عن بيان بعض حالهم، أجاب بقوله: { قالوا
تقاسموا } أمر مما منه القسم، أي أوقعوا المقاسمة والمحالفة بينكم { بالله } أي الذي لا
سمى له لما شاع من عظمته، وشمول إحاطته في علمه وقدرته، فليقل كل منكم عن
نفسه ومن معه إشارة إلى أنكم كالجسد الواحد: { لنبيتنّه } أي صالحاً { وأهله } أي
لنهلكن الجميع ليلاً، فإن البيات مباغتة العدو ليلاً.
ولما كانت العادة جارية بأن المبيتين لا بد أن يبقى بعضهم، قالوا: { ثم لنقولن
لوليّه } أي المطالب بدمه إن بقي منهم أحد: { ما شهدنا } أي حضرنا حضوراً تاماً
{ مهلك } أي هلاك { أهله } أي أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا، أو أهل
صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلك صالح أو باشرنا قتله ولا موضع
إهلاكهم. ولما كانت الفجيعة من وليه بهلاكه - عليه السلام - أكثر من الفجيعة بهلاك
أهله وأعظم، كان في السياق بالإسناد إلى الولي - على تقدير كون الضمير لصالح عليه
السلام - أتم إرشاد إلى أن التقدير: ولا مهلكه.
ولما كانوا قد صمموا على هذا الأمر، وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف
والاجتراء على الكذب فقالو: { وإنا } أي ونقول في جملة القسم تأكيداً للقسم، إيهاماً
لتحقق الصدق: وإنا { لصادقون* } فيا للعجب من قوم إذا عقدوا اليمين فزعوا إلى الله
العظيم، ثم نفروا عنه نفور الظليم، إلى أوثان أنفع منها الهشيم.