التفاسير

< >
عرض

وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٥٠
فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
٥١
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٥٢
وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٣
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
٥٤
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
٥٥
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
٥٦
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٥٧
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ
٥٨
-النمل

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان هذا منهم عمل من لا يظن أن الله عالم به، قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك: { ومكروا مكراً } أي ستروا ستراً عظيماً أرادوا به الشر بهذه المساومة على المقاسمة، فكان مكرهم الذي اجتهدوا في ستره لدينا مكشوفاً وفي حضرتنا معروفاً وموصوفاً، فشعرنا بل علمنا به فأبطلناه { ومكرنا مكراً } أي وجزينانهم على فعلهم بما لنا من العظمة شيئاً هو المكر في الحقيقة فإنه لا يعلمه أحد من الخليقة، ولذلك قال: { وهم } أي مع اعتنائهم بالفحص عن الأمور. والتحرز من عظائم المقدور { لا يشعرون* } أي لا يتجدد لهم شعور بما قدرناه عليهم بوجه ما، فكيف بغيرهم، وذلك أنا جعلنا تدميرهم في تدبيرهم، فلم يقدروا على إبطاله، فأدخلناهم في خبر كان، لم يفلت منهم إنسان، وأهلكنا جميع الكفرة من قومهم في أماكنهم مساكنهم أو غير مساكنهم، وأما مكرهم فكانوا على اجتهادهم في إتقانه وإحكام شأنه، قد جوزوا فيه سلامة بعض من يقصدونه بالإهلاك، فشتان بين المكرين، وهيهات هيهات لما بين الأمرين، وقد ظهر أن الآية إما احتباك أو شبيهة به: عدم الشعور دال على حذف عدم الإبطال من الثاني، وعلى حذف الشعور والإبطال الذي هو نتيجته من الأول.
ولما علم من هذا الإبهام تهويل الأمر، سبب عنه سبحانه زيادة في تهويله قوله: { فانظر } وزاده عظمة بالإشارة بأداة الاستفهام إلى أنه أهل لأن يسأل عنه فقال: { كيف كان عاقبة مكرهم } فإن ذلك سنتنا في أمثالهم، ثم استأنف لزيادة التهويل قوله بياناً لما أبهم: { إنا } أي بما لنا من العظمة، ومن فتح فهو عنده بدل من { عاقبة } { دمرناهم } أي أهلكناهم، أي التسعة المتقاسمين، بعظمتنا التي لا مثل لها { وقومهم أجمعين* } لم يفلت منهم مخبر، ولا كان في ذلك تفاوت بين مقبل ومدبر، وأين يذهب أحد منهم أو من غيرهم من قبضتنا أو يفر من مملكتنا.
ولما كانت يتسبب عن دمارهم زيادة الهول والعرب بالإشارة إلى ديارهم، لاستحضار أحوالهم، واستعظامهم بعظيم أعمالهم، قال: { فتلك } أي المبعدة بالغضب على أهلها { بيوتهم } أي ثمود كلهم { خاوية } أي خالية، متهدمة بالية، مع شدة أركانها، وإحكام بنيانها، فسبحان الفعال لما يريد، القادر على الضعيف كقدرته على الشديد..
ولم ذكر الهلاك، أتبعه سببه في قوله: { بما ظلموا } أي أوقعوا من الأمور في غير مواقعها فعل الماشي في الظلام، كما عبدوا من الأوثان، ما يستحق الهوان، ولا يستحق شيئاً من التعظيم بوجه، معرضين عمن لا عظيم عندهم غيره عند الإقسام، والشدائد والاهتمام، وخراب البيوت - كما قال أبو حيان - وخلوّها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة. ثم زاد في التهويل بقوله: { إن في ذلك } أي الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود { لآية } أي عظيمة، ولكنها { لقوم يعلمون* } أي لهم علم. وأما من لا ينتفع بها نادى على نفسه بأنه في عداد البهائم.
ولما كان ذلك ربما أوهم أن الهلاك عم الفريقين قال: { وأنجينا } بعظمتنا { الذين آمنوا } أو وهم الفريق الذين كانوا مع صالح عليه السلام كلهم { وكانوا يتقون* } أي متصفين بالتقوى اتصافاً كأنهم مجبولون عليه، فيجعلون بينهم وبين ما يسخط ربهم وقايه من الأعمال الصالحة، والمتاجر الرابحة. وكذلك نفعل بكل من فعل فعلهم، قيل: كانوا أربعة آلاف، ذهب بهم صالح عليه السلام إلى حضرموت، فلما دخلوها مات صالح عليه السلام، فسميت بذلك.
ولما فرغ من قصة القريب الذي دعا قومه فإذا هم قسمان، بعد الغريب الذي لم يختلف عليه ممن دعاهم اثنان، اتبعها بغريب لم يتبعه ممن دعاهم إنسان، فقال دالاً على أنه له سبحانه الاختيار، فتارة يجري الأمور على القياس، وأخرى على خلاف الأساس، الذي تقتضيه عقول الناس، فقال: { ولوطاً } أي ولقد أرسلناه؛ وأشار إلى سرعة إبلاغه بقوله: { إذ } أي حين { قال لقومه } أي الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليه السلام وصاهرهم، وكانوا يأتون الأحداث، منكراً موبخاً: { أتأتون } ولما كان للإبهام ثم التعيين من هز النفس وترويعها ما ليس للتعيين من أول الأمر قال: { الفاحشة } أي الفعلة المتناهية في القبح { وأنتم تبصرون* } أي لكم عقول تعرفون بها المحاسن والمقابح، وربما كان بعضهم يفعله بحضرة بعض كما قال
{ { وتأتون في ناديكم المنكر } [العنكبوت: 29] فيكون حينئذ من البصر والبصيرة؛ ثم أتبع هذا الأنكار إنكاراً آخر لمضمون جملة مؤكدة أتم التأكيد، إشارة إلى أن فعلتهم هذه مما يعي الواصف، ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدق ذو عقل أن أحداً يفعلها، فقال معيناً لما أبهم: { أئنكم لتأتون } وقال: { الرجال } تنبيهاً على بعدهم عما يأتونه إليهم، ثم علله بقوله: { شهوة } إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا عفاف؛ وقال: { من دون } أي إتياناً مبتدئاً من غير، أو أدنى رتبة من رتبة { النساء } إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك.
ولما كان قوله: { شهوة } ربما أوهم أنهم لا غنى بهم عن إتيانهم للشهوة الغالبة لكن النساء لا تكفيهم، لذلك نفى هذا بقوله: { بل } أي إنكم لا تأتونهم لشهوة محوجة بل { أنتم قوم } ولما كان مقصود السورة إظهار العلم والحكمة، وكانوا قد خالفوا ذلك إما بالفعل وإما لكونهم يفعلون من الإسراف وغيره عمل الجهلة، قال: { تجهلون* } أي تفعلون ذلك إظهاراً للتزين بالشهوات فعل المبالغين في الجهل الذين ليس لهم نوع علم في التجاهر بالقبائح خبثاً وتغليباً لأخلاق البهائم، مع ما رزقكم الله من العقول التي أهملتموها حتى غلبت عليها الشهوة، وأشار إلى تغاليهم في الجهل وافتخارهم به بما سببوا عن ذلك بقوله: { فما كان جواب قومه } أي لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة في دفعه بل ولا شبهة { إلا أن } صدقوه في نسبته لهم إلى الجهل بأن { قالوا } عدولاً إلى المغالبة وتمادياً في الخبث { أخرجوا آل لوط } فأظهر ما أضمره في الأعراف لأن الإظهار أليق بسورة العلم والحكمة وإظهار الخبء، وقالوا؛ { من قريتكم } مناً عليه بإسكانه عندهم؛ وعللوا ذلك بقولهم: { إنهم } ولعلهم عبروا بقولهم: { أناس } مع صحة المعنى بدونه تهكماً عليه لما فهموا من أنه أنزلهم إلى رتبة البهائم { يتطهرون* } أي يعدون أفعالنا نجسة ويتنزهون عنها.
فلما وصلوا في الخبث إلى هذا الحد، سبب سبحانه عن قولهم وفعلهم قوله: { فأنجيناه وأهله } أي كلهم، أي من أن يصلوا إليه بأذى أو يلحقه شيء من عذابنا { إلا امرأته } فكأنه قيل: فما كان من أمرها؟ فقيل: { قدرناها } أي جعلناها بعظمتنا وقدرتنا في الحكم وإن كانت خرجت معه { من الغابرين* } أي الباقين في القرية في لحوق وجوههم والداهية الدهياء أنفسهم وديارهم حتى كانوا كأمس الدابر { وأمطرنا } وأشار إلى أنه إمطار عذاب بالحجارة مع تعديته بالهمزة وهو معدى بدونها فصارت كأنها لإزالة الإغاثة بالإتيان بضدها بقوله: { عليهم } وأشار إلى سوء الأثر لاستلزامه سوء الفعل الذي نشأ عنه وغرابته بقوله: { مطراً } أي وأيّ مطر؛ ولذلك سبب عنه قوله: { فساء مطر المنذرين* } أي الذين وقع إنذارنا لهم الإنذار الذي هو الإنذار.