التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
٦٥
بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
٦٦
وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ
٦٧
لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
-النمل

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كانت مضمونات هذه البراهين متوقفة على علم الغيب، لأنه لا يخرج الخبء باختراع الخلق وكشف الضر وإحكام التدبير إلا به، لأنه لا قدرة أصلاً لمن لا علم له ولا تمام لقدرة من لا تمام لعلمه - كما مضى بيانه في طه، وطالبهم سبحانه آخر هذه البراهين بالبرهان على الشرك، وكانوا ربما قالوا: سنأتي به، أمر أن يعلموا أنه لا برهان لهم عليه، بل البرهان قائم على خلافه، فقال: { قل } أي لهم أو لكل من يدعي دعواهم: { لا يعلم } أحد، ولكنه عبر بأداة العقلاء فقال: { من } لئلا يخصها متعنت بما لا يعقل، عبر بالظرف تنبيهاً على أن المظروف محجوب، وكل ظرف حاجب لمظروفه عن علم ما وراءه، فقال: { في السماوات والأرض الغيب } أي الكامل في الغيبة، وهو الذي لم يخرج إلى عالم الشهادة أصلاً، ولا دلت عليه أمارة، ليقدر على شيء مما تقدم في هذه الآيات من الأمور فيعلمه.
ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان. جعل الاستثناء هنا منقطعاً، ومن حق المنقطع النصب كما قرأ به ابن أبي عبلة شاذاً، لكنه رفع بإجماع العشرة بدلاً على لغة بني تميم، فقيل: { إلا الله } أي المختص بصفات الكمال كما قيل في الشعر:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

بمعنى: إن كانت اليعافير أنيساَ ففيها أنيس، بتاً للقول بخلوها من الأنيس، فيكون معنى الآية: إن كان الله جل وعلا ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب، يعني إن علم أحدهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، ويصح كونه متصلاً، والظرفية في حقه سبحانه مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وعلى هذا فيرتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب، لأنه من منفي، وقد عرف بهذا سر كونه لم يقل "لا يعلم أحد الغيب إلا هو" وهو التنبيه على المظروفية والحاجة، وأن الظرف حجاب، لا يرتاب فيه مرتاب، وجعل ابن مالك متعلق الظرف خاصاً تقديره: يذكر، وجعل غيره "من" مفعولاً والغيب بدل اشتمال، والاستثناء مفرغاً، فالتقدير: لا يعلم غيب المذكورين - أي ما غاب عنهم - كلهم غيره.
ولما كان الخبر - الذي لم يطلع عليه أحد من الناس - قد يخبر به الكهان، أو أحد من الجان، من أجواف الأوثان، وكانوا يسمون هذا غبياً وإن كان في الحقيقة ليس به لسماعهم له من السماء بعد ما أبرزه الله إلى عالم الشهادة للملائكة ومن يريد من عباده، وكانوا ربما تعتنوا به عن العبارة، وكانت الساعة قد ثبت أمرها، وشاع في القرآن وعلى لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم ذكرها، بحيث صارت بمنزلة ما لا نزاع فيه، وكان علم وقتها من الغيب المحض، قال: { وما يشعرون } أي أحد ممن في السماوات والأرض وإن اجتمعوا وتعاونوا { أيان } أي أيّ وقت { يبعثون* } فمن أعلم بشيء من ذلك على الحقيقة بأن صدقه، ومن تخرص ظهر كذبه.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث والكفر قد عم الأرض، وكانوا قد أكثروا في التكذيب بالساعة والقطع بالإنكار لها بعضهم صريحاً، وبعضهم لزوماً، لضلاله عن منهاج الرسل وكان الذي ينبغي للعالم الحكيم أن لا يقطع بالشيء إلا بعد إحاطة علمه به، قال متهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! استهزاء به مستدركاً لنفي شعورهم بها بياناً لكذبهم باضطراب قولهم: { بل ادّارك } أي بلغ وتناهي { علمهم في الآخرة } أي أمرها مطلقاً: علم وقتها ومقدار عظمتها في هو لها وغير ذلك من نعتها لقطعهم بإنكارها وتمالؤهم عليه، وتنويع العبارات فيه، وتفريع القول في أمره - هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وكذا في قراءة الباقين: ادّارك بمعنى تدارك يعني تتابع واستحكم.
ولما كانوا مع تصريحهم بالقطع في إنكارها كاذبين في قطعهم، مرتبكين في جهلهم، وقد يعبرون - دليلاً على أنه لا علم من ذلك عندهم - بالشك، قال تعالى: { بل هم في شك } ولما كانت لشدة ظهورها لقوة أدلتها كأنها موجودة، عبر بمن، أي مبتدىء { منها } ولما كانوا يجزمون بنفيها تارة ويترددون أخرى، كانت حقيقة حال من ينكر الشيء تارة على سبيل القطع وأخرى وجه الشك الوصف بالجهل البالغ به قال: { بل هم } ولما كان الإنسان مطبوعاً على نقائص موجبة لطغيانه، ومبالغته في العلو في جميع شأنه، ولا يوهن تلك النقائص منه إلا الخوف من عرضه على ديانه، الموجب لجهله. وتماديه على قبيح فعله، فقال مقدماً للجار: { منها عمون* } أي ابتدأ عماهم البالغ الثابت من اضطرابهم في أمرها، فضلوا فأعماهم ضلالهم عن جميع ما ينفعهم، فصاروا لا ينتفعون بعقولهم، بل انعكس نفعها ضراً، وخيرها شراً، ونسب ما ذكر لجميع من في السماوات والأرض، لأن فعل البعض قد يسند إلى الكل لغرض، وهو هنا التنبيه على عظمة هذا الأمر، وتناهي وصفه، وأنه يجب على الكل الاعتناء به، والوقوف على حقه، والتناهي عن باطله، أو لشك البعض وسكوت الباقي لقصد تهويله، أو أن إدراك العلم من حيث التهويل بقيام الأدلة التي هي أوضح من الشمس، فهم بها في قوة من أدرك علمه بالشيء، وهو معرض عنه، فقد فوّت على نفسه من الخير ما لا يدري كنهه، ثم نزل درجة أخرى بالشك ثم أهلكها بالكلية، وأنزلها العمى عن رتبة البهائم التي لا همّ لها إلا لذة البطن والفرج، وهذا كمن يسمع باختلاف المذاهب وتضليل بعضهم لبعض فيضلل بعضهم من غير نظر في قوله فيصير خابطاً خبط عشواء، ويكون أمره على خصمه هيناً أو الشك لأجل أن أعمالهم أعمال الشاك، أو أنهم لعدم علم الوقت بعينة كأنهم في شك بل عمى، ولأن العقول والعلوم لا تستقل بإدراك شيء من أمرها، وإنما يؤخذ ذلك عن الله بواسطة رسله من الملك والبشر. ومن أخذ شيئاً من علمها عن غيرهم ضل.
ولما كان التقدير لحكاية كلامهم الذي يشعر ببلوغ العلم، فقالوا مقسمين جهد أيمانهم: لا تأتينا الساعة، عطف عليه ما يدل على الشك والعمى، وكان الأصل: وقالوا، ولكنه قال: { وقال الذين كفروا } أي ستروا دلائل التوحيد والآخرة التي هي أكثر من أن تحصى وأوضح من الضياء، تعليقاً للحكم بالوصف، مستفهمين استفهام المستبعد المنكر: { أإذا كنا تراباً وآباؤنا } وكرروا الاستفهام إشارة إلى تناهي الاستبعاد والجحود، وعد ما استبعدوه محالاً، فقالوا: { أئنا } أي نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم، وتمكن البلى فيهم { لمخرجون* } أي من الحالة التي صرنا إليها من الموت والبلى إلى ما كنا عليه قبل ذلك من الحياة والقوة، ثم أقاموا الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم: { لقد وعدنا }.
ولما كانت العناية في هذه السورة بالإيقان بالآخرة، قدم قوله: { هذا } أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة - على قوله: { نحن وآباؤنا } بخلاف ما سبق في سورة المؤمنون، وقالوا: { من قبل } زيادة في الاستبعاد، أي أنه قد مرت الدهور على هذا الوعد، ولم يقع منه شيء، فلذلك دليل على أنه لا حقيقة له فكأنه قيل: فما المراد به؟ فقالوا: { إن } أي ما { هذا إلا أساطير الأولين* } أي ما سطروه كذباً لأمر لا نعرف مرادهم منه. ولا حقيقة لمعناه، فقد حط كلامهم هذا كما ترى على أنهم تارة في غاية الإنكار دأب المحيط العلم، وتارة يستبعدون دأب الشاك، المركب الجهل، الجدير بالتهكم كما مضى أنه معنى الإضرابات - والله الموفق.