التفاسير

< >
عرض

وَقِيلَ ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ
٦٤
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ
٦٥
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ
٦٦
فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ
٦٧
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ سُبْحَانَ ٱللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٨
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٦٩
وَهُوَ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلأُولَىٰ وَٱلآخِرَةِ وَلَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٧٠
-القصص

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما لم يلتفت إلى هذا الكلام منهم بل عد عدماً، لأنه لا طائل تحته، أشير إلى الإعراض عنه لأنه لا يستحق جواباً كما قيل "رب قول جوابه في السكوت" بقوله: { وقيل } أي ثانياً للأتباع تهكماً بهم وإظهاراً لعجزهم الملزوم لتحسرهم وعظم تأسفهم، وعبر بصيغة المجهول، إظهاراً للاستهانة بهم، وأنهم من الذل والصغار بحيث يجيبون كل أمر كائناً من كان: { ادعوا } أي كلكم { شركاءكم } أي الذين ادعيتم جهلاً شركتهم ليدفعوا عنكم. وأضافهم هنا إليهم إشارة إلى أنهم لم يستفيدوا زعمهم أنهم شركاء الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - إلا أن أشركوهم فيما صرفوا إليهم من أموالهم وأقوالهم، وأزمانهم وأحوالهم { فدعوهم } تعللاً بما لا يغني، وتمسكاً بما يتحقق أنه لا يجدي، لفرط الغلبة واستيلاء الحيرة والدهشة { فلم يستجيبوا لهم } كما يحق لهم بما لهم من وصف عدم الإدراك، والعجز والهلاك { ورأوا } أي كلهم { العذاب } عالمين بأنه مواقعهم لا مانع له عنهم، فكان الحال حينئذ مقتضياً لأن يقال من كل من يراهم: { لو أنهم كانوا } أي كوناً هو لهم صفة راسخة { يهتدون* } أي يحصل منهم هدى ساعة من الدهر، تأسفاً على أمرهم، وتمنياً لخلاصهم، أو لو أن ذلك كان في طبعهم لنجوا من العذاب، أو لما رأوه أصلاً، أو لما اتبعوهم.
ولما أشار إلى أنه لا خلاص من ذلك الردى إلا بالهدى، أتبعه الإعلام بأنه لا يمكن أحداً هناك أن يفعل ما قد يروج على سائله كما يفعل في هذه الدار من إظهار ما لم يكن مكرراً لتهويل ذلك اليوم وتبشيعه وتعظيمه وتفظيعه، سائلاً عن حق رسله عليهم الصلاة والسلام بعد السؤال عن حقه سبحانه، منادياً بعجز الشركاء في الأخرى كما كانوا عاجزين في الأولى { ويوم يناديهم } وهم بحيث يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، قد برزو الله جميعاً من كان منهم عاصياً ومن كان مطيعاً في صعيد واحد، قد أخذ بأنفاسهم الزحام، وتراكبت الأقدام على الأقدام، وألجمهم العرق، وعمهم الغرق { فيقول ماذا } أي أوضحوا أو عينوا جوابكم الذي { أجبتم المرسلين* } أي به، ولما لم يكن لهم قدم صدق ولا سابق حق بما أتتهم الرسل به من الحجج، وتابعت عليهم من الأدلة، لم يكن لهم جواب إلا السكوت، وهو المراد بقوله: { فعميت } أي خفيت وأظلمت في غواية ولجاج { عليهم الأنباء } أي الأخبار التي هي من العظمة بحيث يحق لها في ذلك اليوم أن تذكر، وهي التي يمكن أن يقع بها الخلاص، وعداه بعلى إشارة إلى أن عماها وقع عليهم، فعم الكل العمى فصاروا بحيث لا تهتدي الأنباء لعماها إليهم لتجددها، ولا يهتدون إليها لانتشار عماها إليهم، وهذا كله إشارة إلى أنهم لم يقدموا عملاً في إجابة الرسل بحق أن يذكر في ذلك اليوم، بل أسلفوا من التكذيب والإساءة ما يودون لو أن بينهم وبينه أمداً بعيدأً، وقال: { يومئذ } تكريراً لتخويف ذلك اليوم وتهويله، وتقريراً لتعظيمه وتبجيله.
ولما تسبب عن هذا السؤال السكوت علماً منهم بأنه ليس عند أحد منهم ما يغني في جوابه من حسن القول وصوابه، وأنهم لا يذكرون شيئاً من المقال إلا عاد عليهم بالوبال، قال مترجماً عن ذلك: { فهم لا يتساءلون* } أي لا يسأل أحد منهم أحداً عن شيء يحصل به خلاص، لعلمهم أنه قد عمهم الهلاك، ولات حين مناص، ولأن كل منهم أبغض الناس في الآخر.
ولما علم بهذه الآيات حال من أصر على كفره وعمل سيئاً بطريق العبارة، وأشير إلى حال من تاب فوعد الوعد الحسن ألطف إشارة تسبب عن ذلك التشوف إلى التصريح بحالهم، فقال مفصلاً مرتباً على ما تقديره: هذا حال من أصر على كفره { فأما من تاب } أي عن كفره وقال: { وآمن } تصريحاً بما علم التزاماً، فإن الكفر والإيمان ضدان، لا يمكن ترك أحدهما إلا بأخذ الآخر { وعمل } تصديقاً لدعواه باللسان { صالحاً }.
ولما كانت النفس نزاعة إلى النقائص، مسرعة إلى الدنايا، أشير إلى صعوبة الاستمرار على طريق الهدى إلا بعظيم المجاهدة بقوله: { فعسى } أي فإنه يتسبب عن حاله هذا الطمع في { أن يكون } أي كوناً هو في غاية الثبات { من المفلحين* } أي الناجين من شر ذلك اليوم، الظافرين بجميع المراد، باستمرارهم على طاعتهم إلى الموت، وإنما لم يقطع له بالفلاح وإن كان مثل ذلك في مجاري عادات الملوك قطعاً، إعلاماً بأنه لا يجب سبحانه شيء ليدوم حذره، ويتقي قضاؤه وقدره، فإن الكل منه.
ولما كان كأنه قيل: ما لأهل القسم الأول لا يتوخون النجا من ضيق ذلك البلا، إلى رحب هذا الرجا، وكان الجواب: ربك منعهم من ذلك، أو ما لم يقطع لأهل هذا القسم بالفلاح كما قطع لأهل القسم الأول بالشقاء؟ وكان الجواب: إن ربك لا يجب عليه شيء عطف عليه - إشارة إليه قوله { وربك } أي المحسن إليك، بموافقة من وافقك ومخالفة منخالفك لحكم كبار، دقت عن فهم أكثر الأفكار { يخلق ما يشاء } من الهدى الضلال وغيرهما، لأنه المالك المطلق لا مانع له من شيء من ذلك { ويختار } أي يوقع الاختيار، لما يشاء فيريد الكفر للأشرار، والإيمان للأبرار، لا اعتراض عليه، فربما ارتد أحد ممن أظهر المتاب، لما سبق عليه من الكتاب، فكان من أهل التباب فلا تأس على من فاتك كائناً من كان، واعلم أنه ما ضر إلا نفسه، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته.
ولما أفهم هذا أن غيره سبحانه إذا أراد شيئاً لم يكن إلا أن يوافق مراده تعالى، صرح به بقوله: { ما كان لهم الخيرة } أي أن يفعلوا أو يفعل لهم كل ما يختارونه من إتيان الرسول بمثل ما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام أو غيره، اسم من الاختيار، يقام مقام المصدر، وهو أيضاً اسم المختار، فهو تعبير بالمسبب عن السبب لأنه إذا خلى عنه كان عقيماً فكان عدماً، قال الرازي في اللوامع: وفيه دليل على أن العبد في اختياره غير مختار، فلهذا أهل الرضى حطوا الرحال بين يدي ربهم، وسلموا الأمور إليه بصفاء التفويض، يعني فإن أمرهم أو نهاهم بادروا، وإن أصابهم بسهام المصائب العظام صابروا، وإن أعزهم أعزوا أنفسهم وأكرموا، وإن أذلهم رضوا وسلموا، فلا يرضيهم إلا ما يرضيه، ولا يريدون إلا ما يريده فيمضيه:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمني اللوم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً ما من يهون عليك ممن أكرم

ولما كان إيقاع شيء على غير مراده نقصاً، وكان وقوع الشرك سفولاً وعجزاً، قال تعالى مشيراً إلى نتيجة هذه الآيات في نفي ذلك عنه: { سبحان الله } أي تنزه الجامع لصفات الكمال عن أن يختار أحد شيئاً لا يريده فيص إليه أو يقع بوجه عليه { وتعالى } أي علا علو المجتهد في ذلك، فعلوُّه لا تبلغ العقول بوجه كنه هداه { عما يشركون* } لأنه لا إرادة لما ادعوهم شركاء، ولو كانت لهم إرادة لتوقف إنفادها لعجزهم على إيجاد الخالق.
ولما كانت القدرة لا تتم إلا بالعلم، قال: { وربك } أي المحسن إليك المتولي لتربيتك، كما هو بالغ القدرة، فهو شامل العلم { يعلم ما تكن } أي تخفي وتستر { صدورهم } من كونهم يؤمنون على تقدير أن تأتيهم آيات مثل آيات موسى أو لا يؤمنون، ومن كون ما أظهر من أظهر منهم الإيمان بلسانه خالصاً أو مشوباً.
ولما كان علم الخفي لا يستلزم علم الجلي إما لبعد أو لغط أو اختلاط أصوات يمنع تمييز بعضه عن بعض أو غير ذلك قال: { وما يعلنون* } أي يظهرون، كل ذلك لديه سواء، فلا يكون لهم مراد إلا بخلقه.
ولما كان علمه بذلك إنما هو لكونه إلهاً، وكان غيره لا يعلم من علمه إلا ما علمه، عبر عن ذلك بقوله: { وهو الله } أي المستأثر بالإلهية الذي لا سمي له، الذي لا يحيط الوصف من عظمته بأكثر من أنه عظيم على الإجمال، وأما التفاصيل كلها أو أقلها فهيهات هيهات؛ ثم شرح معنى الاسم الأعظم بقوله { لا إله إلا هو } ثم علل ذلك بقوله: { له } أي وحده { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال { في الأولى والآخرة } وليس ذلك لشيء سواه إن آمنوا أو كفروا { وله } أي وحده { الحكم } أي إمضاء القضاء على الإطلاق، فلو أراد لقسرهم على الإيمان { وإليه } أي لا إلى غيره { ترجعون* } أي بأيسر أمر يوم النفخ في الصور، لبعثرة القبور، بالبعث والنشور، ومع أنكم الآن أيضاً راجعون في جميع أحكامكم إليه ومقصورون عليه، إن شاء أمضاها، وإن أراد ردها ولواها، ففي الايات غاية التقوية لقلوب المطيعين، ونهاية الزجر والردع للمتمردين، بالتنبيه على كونه قادراً على جميع الممكنات، علماً بكل المعلومات، منزهاً عن النقائص والآفات يجزي الطائعين والعاصين بالقسط.