التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٦٨
وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٧٠
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
-آل عمران

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما حكى عنهم ما لا يقوله ذو إيمان أتبعه ما لا يتخيله ذو مروة ولا عرفان فقال مبيناً للذين نافقوا: { الذين قالوا لإخوانهم } أي لأجل إخوانهم والحال أنهم قد أسلموهم { وقعدوا } أي عنهم خذلاناً لهم { لو أطاعونا } أي في الرجوع { ما قتلوا } ولما كان هذا موجباً للغضب أشار إليه بإعراضه في قوله: { قل } أي لهؤلاء الأجانب الذين هم بمنزلة الغيبة عن حضرتي لما تسبب عن قولهم هذا من ادعاء القدرة على دفع الموت { فادرءوا } أي ادفعوا بعز ومنعة وميّلوا { عن أنفسكم الموت } أي حتى لا يصل إليكم أصلاً { إن كنتم صادقين } أي في أن الموت يغني منه حذر. فقد انتظم الكلام بما قبل الجملة الواعظة أتم انتظام على أنه قد لاح لك أن ملائمة الجمل الواعظة لما قبلها وما بعدها ليس بدون ملاءمة ما قبلها من صلب القصة لما بعدها منه.
ولما أزاح سبحانه وتعالى العلل وشفى الغلل وختم بأنه لا مفر من القدر، فلم يبق عند أهل الإيمان إلا ما طبع عليه الإنسان من الأسف على فقد الإخوان، وكان سرور المفقود يبرد غلة الموجود بشرهم بحياتهم وما نالوه من لذاتهم؛ ولما كان العرب بعيدين قبل الإسلام من اعتقاد الحياة بعد الموت خاطب الذي لا ريب في علمه بذلك إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه سواه، كما أشار إليه قوله في البقرة
{ ولكن لا تشعرون } [البقرة: 153] فقال تعالى عاطفاً على قل محبباً في الجهاد، إزالة لما بغضه به المنافقون من أنه سبب الموت: { ولا تحسبن الذين قتلوا } أي وقع لهم القتل في هذه الغزوة أو غيرها { في سبيل الله } أي الملك الأعظم، والله أعلم بمن يقتل في سبيله { أمواتاً } أي الآن { بل } هم { أحياء } وبين زيادة شرفهم معبراً عن تقربهم بقوله: { عند ربهم } أي المحسن إليهم في كل حال، فكيف في حال قتلهم فيه حياة ليست كالحياة الدنيوية! فحقق حياتهم بقوله { يرزقون * } أي رزقاً يليق بحياتهم { فرحين بما آتاهم الله } أي الحاوي لجميع الكمال من ذلك الفوز الكبير { من فضله } لأنه لو حاسبهم على أقل نعمة من نعمة لم توف جميع أعمالهم بها لأن أعمالهم من نعمه، فأعلمنا سبحانه وتعالى بهذا تسلية وحسن تعزية أن لم يفت منهم إلا حياة الكدر التي لا مطمع لأحد في بقائها وإن طال المدى، وبقيت لهم حياة الصفاء التي لا انفكاك لها ولا آخر لنعيمها بغم يلحقهم ولا فتنة تنالهم ولا حزن يعتريهم ولا دهش يلم بهم في وقت الحشر ولا غيره، فلا غفلة لهم، فكان ذلك مذهباً لحزن من خلفوه ومرغباً لهم في الأسباب الموصلة إلى مثل حالهم، وهذا - والله سبحانه وتعالى أعلم - معنى الشهادة، أي أنهم ليست لهم حال غيبة، لأن دائم الحياة بلا كدر أصلاً كذلك. ولما ذكر سرورهم بما نالوه ذكر سرورهم بما علموه لمن هو على دينهم فقال: { ويستبشرون } أي توجد لهم البشرى وجوداً عظيم الثبات حتى كأنهم يوجدونها كلما أرادوا { بالذين لم يلحقوا بهم } أي في الشهادة في هذه الغزوة. ثم بين ذلك بقوله: { من خلفهم } أي في الدنيا. ثم يبن المبشر به فقال: { ألاّ خوف عليهم } أي على إخوانهم في آخرتهم { ولا هم يحزنون * } أي أصلاً، لأنه لا يفقد منه شيء، بل هم كل لحظة في زيادة، وهذا أعظم البشرى لمن تركوا على مثل حالهم من المؤمنين، لأنهم يلحقونهم في مثل ذلك، لأن السبب واحد، وهو منحة الله لهم بالقتل فيه، أو مطلق الإيمان لمطلق ما هم فيه من السعادة بغير قيد الشهادة.
ولما ذكر سرورهم لأنفسهم تارة ولإخوانهم أخرى كرره تعظيماً له وإعلاماً بأنه في الحقيقة عن غير استحقاق. وإنما هو مجرد مَنّ فقال: { يستبشرون بنعمة من الله } أي ذي الجلال والإكرام، كبيرة { وفضل } أي منه عظيم { وأن الله } أي الملك الأعظم الذي لا يقدره أحد حق قدره { لا يضيع أجر المؤمنين * } أي منهم ومن غيرهم، بل يوفيهم أجرهم على أعمالهم ويفضل عليهم، ولو شاء لحاسبهم على سبيل العدل، ولو فعل ذلك لم يكن لهم شيء.
ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة، وأحوال من كان على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال: { الذين استجابوا } أي أوجدوا الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان { لله والرسول } أي لا لغرض مغنم ولا غيره، ثم عظم صدقهم بقوله - مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان -: { من بعد ما أصابهم القرح }.
ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى: { للذين أحسنوا } وعبر بما يصلح للبيان والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال: { منهم واتقوا أجر عظيم * } وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا: إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد، أو غزوة بدر الموعد، فإن الوعد كان يوم أحد - والله الهادي، ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم وأن الباقين كانوا مشاة فلعله، وإلا فليس كذلك، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع، فأراد أن يرهبهم وأن يريهم من نفسه وأصحابه قوة، فنادى مناديه يوم الأحد - الغد من يوم أُحد - بطلب العدو, وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه بالأمس، فأجابوا بالسمع والطاعة، فخرج في أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم، ولم يتخلف منهم أحد، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم أحد، واستأذنه رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه أذن له لعلة ذكرها في التخلف عن أحد محمودة. قال الواقدي: ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي رضي الله عنه، ويقال: إلى أبي بكر رضي الله عنه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه مشجوج وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد سقطت، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان بأبي هو وأمي ووجهي وعيني! فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال: يا طلحة سلاحك! قال: قلت: قريب، قال: فأخرج، أعدو فألبس درعي ولأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال:
"أين ترى القوم الآن؟ قال: هم بالسيالة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي ظننت! أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا! " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، قال جابر رضي الله عنه: وكان عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران، فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان ما كبت الله به عدونا فهنا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل - والله أعلم - ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح - قال الواقدي: جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية، عامة بني عبد الأشهل جريح، بل كلهم - رضي الله عنهم! فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوكم، قال: يقول أسيد بن حضير رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها: سمعاً وطاعة لله ولرسوله! فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير، فلبسوا ولحقوا، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال: هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم - رضي الله عنهم! فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً، وبقطبه بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية عليهم السلاح، قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال: " اللهم ارحم بني سلمة! " وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنهما كان بهما جراح كثيرة، فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه: والله إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغَبنا والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع! قال عبد الله: انطلق بن، قال رافع: لا والله ما بي مشي! قال أخوه: انطلق بنا نتجارّ، فخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهو يوقدون النيران، فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال: " ما حبسكما؟ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخير وقال: إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكم" وأما غزوة بدر الموعد فروى الواقدي - ومن طريقه الحاكم في الإكليل - كما حكاه ابن سيد الناس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من أصحابه رضي الله عنهم، وكان الخيل عشرة قال الواقدي: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الموسم: يا محمد! لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " ليرفع ذلك إلى عدوه: ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا، فقال الضمري: بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك" .