التفاسير

< >
عرض

وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٦
يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ
٧
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ
٨
-الروم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر، أكده سبحانه بما يقوي قلوب أصفيائه بتبيين المراد، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من الناد، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد، فقال: { وعد الله } أي الذي له جميع صفات الكمال، وهو متعال عن كل شائبة نقص، فلذلك { لا يخلف } وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال: { الله } أي الذي له الأمر كله. ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره، أظهر فقال: { وعده } كما يعلم ذلك أولياؤه { ولكن أكثر الناس } وهو أهل الاضطراب والنوس { لا يعلمون* } أي ليس لهم علم أصلاً، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد وأنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرها لأنه قادر وحكيم.
ولما كان من المشاهدة أن لهم عقولاً راجحة وأفكار صافية، وأنظار صائبة، فكانوا بصدد أن يقولوا: إن علمنا أكبر من علمكم، كان كأنه قيل بياناً لأنه يصح سلب ما ينفع من العلم بتأديته إلى السعادة الباقية، وتنبيهاً على أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا: نعم { يعلمون } ولكن { ظاهراً } أي واحداً { من } التقلب في { الحياة الدنيا } وهو ما أدتهم إليه حواسهم وتجاربهم إلى ما يكون سبباً للتمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، قال الحسن: إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه ولا يخطىء وهو لا يحسن يصلي - انتهى. وأمثال هذا لهم كثير، وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير، فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع، وأما علم باطنها وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزود منها بالطاعة، فهو ممدوح منبه عليه بوصفها بما يفهم الأخرى.
ولما ذكر حالهم في الدنيا، أتبعه ذكر اعتقادهم في الآخرة، مؤكداً إشارة إلى أن الحال يقتضي إنكار أن يغفل أحد عنها، لما لها من واضح الدلائل أقربه أن اسم ضدها يدل عليها، لأنه لا تكون إلا في مقابلة قصياً، ولا أولى إلا بالنسبة إلى أخرى، فقال: { وهم } أي هؤلاء الموصوفون خاصة { عن الآخرة } التي هي المقصود بالذات وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام { هم غافلون* } أي في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا يخطر في خواطرهم، فصاروا لاستيلاء الغفلة عليهم إذا ذكرت لهم كذبوا بها، واستهزؤوا بالمخبر، ولم يجوزوها نوع تجير مع أن دلائلها تفوت الحصر، وتزيد على العد، فصاروا كأنهم مخصوصون بالغفلة عنها من بين سائر الناس ومخصصون لها بالغفلة من بين سائر الممكنات، فلذلك لا يصدقون الوعد بإدالة الروم لما رسخ في نفوسهم من أن الأمور تجري بين العباد على غير قانون الحكمة، لأنهم كثيراً ما يرون الظالم يموت ولم يقتص منه، وهم في غفلة عن أنه أخر جزاؤه إلى يوم الدين، يوم يكشف الجبار حجاب الغفلة ويظهر عدله وفضله، وتوضع الموازين القسط، فتطيش بمثاقيل الذر، ويقتص للمظلومين من الظالمين، ومن أريد القصاص منه عاجلاً فعل، وقضية الروم هذه من ذلك، وهذا السياق يدل على أنه لا حجاب عن العلم أعظم من التكذيب بالآخرة، ولا شيء أعون عليه من التصديق بها والاهتمام بشأنها، لأن ذلك حامل على طلب الخلاص في ذلك اليوم، وهو لا يكون على أتم الوجوه إلا لمن وصل إلى حالة المراقبة، وذلك لا يكون إلا لمن علم إما بالكشف أو الكسب كل علم فلم يتحرك حركة إلا بدليل يبيحها له ويحمله عليها، وبهذا التقرير يظهر أن هاتين الجملتين بكمالهما علة لنفي العلم عنهم، والمعنى أن العلم منفي عنهم لما شغل قلوبهم من هذا الظاهر في حال غفلتهم عن الآخرة، فانسد عليهم باب العلم - والله الموفق.
ولما كان التقدير: أفلم يتدبروا القرآن وما كشف لهم عنه من الحكم والأمور التي وعد الله بها على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيه أو في السنة، فكانت على حسب ما وعد، أو لم يتأملوا مصنوعات الله عموماً فتدلهم عقولهم منها على أنه لا يصلح للإلهية إلا من كان حكيماً، ولا يكون حكيماً إلا من صدق في وعده، و أنه لا تتم الحكمة إلا بإيجاد الآخرة، عطف عليه قوله منكراً عليهم موبخاً لهم: { أولم يتفكروا } أي يجتهدوا في إعمال الفكر، ثم ذكر آلة الفكر زيادة في تصوير حال المتفكرين والتذكير بهيئة المعتبرين فقال: { في أنفسهم } ويجوز أن تكون هي المتفكر فيه فيكون المعنى: يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص، فكيف بالإله الحق، ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور، وفاوت بينهم في القوى والقدر، وبين آجالهم في الطول والقصر، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر، وأمات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر، لا بد في حكمته البالغة من جمعهم للعدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر، أو شكر أو كفر، ثم ذكر نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم، وعلى التقدير الأول يكون هذا هو المتفكر فيه { ما خلق الله } أي بعز جلاله، وعلوه في كماله { السماوات والأرض } على ما هما عليه من النظام المحكم، والقانون المتقن، وأفرد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعددها بخلاف السماء { وما بينهما } من المعاني التي بها كمال منافعهما { إلا } خلقاً متلبساً { بالحق } أي الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأه الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منها للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً للأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار، وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار، وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار، رآه مطابقاً لكل ما يخطر في باله من الأقدار، وإذا خطر له العلم، فتبصر في جري هذه الأمور وغيرها على منهاج مستقيم، ونظام واضح قويم، وسير متقن حكيم، علم أن ذلك في غاية المطابقة للخبر بالعلم الشامل والقدرة التامة على البعث وغيره، أو إلا بالأمر الثابت والقضاء النافذ الذي لا يتخلف عنه المراد، ولا يستعصي عليه حيوان ولا جماد، وخلقكم من هذا الخلق الكبير الذي قام بأمره من بعض ترابه. ثم جعلكم من سلالة من ماء مهين، فالقدرة التي خلق بها ذلك كله وابتدأكم ثم يبيدكم، بها بعينها يحييكم ويعيدكم، ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون، أو إلا بسبب إحقاق الحق وإبطال الباطل، فلا بد من تصديق وعده بإدالة الروم لأخذ حقهم من الفرس، ولا بد من أن يقيمكم بعد أن ينيمكم ويثبت كل حق رأيتموه قد أبطل، ويبطل كل باطل رأيتموه قد أعمل، لأنه أحكم الحاكمين، فلو أقر على إماتة حق أو إحياء باطل لما كان كذلك.
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد، قال: { وأجل } لا بد أن ينتهي إليه { مسمى } أي في العلم من الأزل، وذلك الأجل هو وقت قيام الساعة، وذلك أنه كما جعل لهم آجالاً لأصلهم وفرعهم لم يشذ عنها أحد منهم فكذلك لا بد من أجل مسمى لما خلقوا منه، فإذا جاء ذلك الأجل انحل هذا النظام، واختل هذا الإحكام، وزالت هذه الأحكام، فتساقطت هذه الأجرام، وصارت إلى ما كانت عليه من الإعدام، وإلا كان الخلق عبثاً يتعالى عنه الملك العلام.
ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر، أكد قوله: { وإن كثيراً من الناس } مع ذلك على وضوحه { بلقاء ربهم } الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب { لكافرون } أي لساترون ما في عقولهم من دلائل وحدانيته وحجج قدرته وحكمته ستراً عظيماً، كأنه غريزة لهم، فهم لذلك يكذبون بما وعدكم سبحانه من إدالة الروم على الفرس، فلا يهولنكم ذلك لأنهم قد كذبوا بما هو أكبر منه، وهو الآخرة على ما لها من الدلائل التي تفوت الحصر، وإذا راجعت ما تقدم في آية الأنعام
{ { وهو الذي خلقكم من طين } [آية: 2] ازددت في هذا بصيرة.