التفاسير

< >
عرض

وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ
١٩
أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٢٠
-لقمان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم: { واقصد } أي اعدل وتوسط { في مشيك } لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين، وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في اللوامع، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر { واغضض } أي انقص، ولأجل ما ذكر قال: { من صوتك } بإثبات "من" أي لئلا يكون صوتك منكراً، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به.
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا بـ "من" فأفهم أن الطرفين مذمومان، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة "أفعل" على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال: { إن أنكر } أي أفظع وأبشع وأوحش { الأصوات } أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً، مبالغة في التهجين، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال: { لصوت الحمير } أي هذا الجنس، لما له من الغلو المفرط من غير حاجة، وأوله زفير وآخره شهيق، وهما فعل أهل النار، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك, ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره, ولذلك يستهجن التصريح باسمه، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق، وهي أمهات الفضائل الثلاث: الحكمة والعفة والشجاعة، وأمرت بالعدل فيها، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل، ونهت عن مساؤى الأخلاق، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه، قال: إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى: إحداها مبدأ إدراك الحقائق، والشوق إلى النظر في العواقب، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة، والثانية العفة، والثالثة الشجاعة، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى:
{ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [البقرة: 269] وإفراطها الجربزة، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت: وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم، وهو الخب، أي الخداع الخبيث - والله أعلم، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة، حتى يكون فعلها جميلاً، وصبرها محموداً، وإفراطها التهور، أي الإقدام على ما لا ينبغي، وتفريطها الجبن، أي الحذر عما لا ينبغي، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة، لتسلم عن استعباد الهوى إياها، واستخدام اللذات، وإفراطها الخلاعة والفجور، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب، وتفريطها الجمود، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة، فالأوساط فضائل، والأطراف رذائل، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة، أي في قوله تعالى: { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [البقرة: 143] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام "خير الأمور أوساطها" والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها، ومقصدها المتوجه إليه، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها، واشترط التوسط في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة هواهما وتصرفاها عن كمالها ومقصدها - انتهى.
ولما انقضت هذه الجمل، رافعة أعناقها على المشتري وزحل، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل، والضجر في الفكر والملل، وأين الثريا من يد المتناول، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر، ورفع الصوت فوق الحاجة، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته، وتارة خوفاً من سطوته، وتارة رجاء لنعمته، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل، وأن إليه المرجع، وهو عالم على استحقاقه، لما أمر به لقمان شيء، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه، محذراً من سلبها عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر، فقال: { ألم تروا } اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث، المتكبرون علي المقبلين على الله، المتخلين عن الدنيا، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك { هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه } { أن الله } أي الحائز لكل كمال { سخر لكم } أي خاصة { ما في السماوات } بالإنارة والإظلام، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام، وأكده بإعادة الموصول والجار، لأن المقام حقيق به فقال: { وما في الأرض } بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه، ما لأحد ممن دونه فيه شيء، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن { وأسبغ } أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل { عليكم } أيها المكلفون { نعمه } أي واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً { ظاهرة } وهي ما تشاهدونها متذكرين لها { وباطنة } وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها، أو تحسونها وهي خفية عنكم، لا تذكرونها إلا بالتذكير، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين، حذراً من سلب نعمه، وإيجاب نقمه، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى: { خلق السماوات بغير عمد ترونها }.
ولما كان التقدير: ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده, فمن الناس من أذعن وأناب, وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم, على لسان رسوله النبي الكريم, فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى, عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس: { ومن الناس } أي الذين هم أهل للاضطراب، ويمكن أن يكون حالاً من { ألم تروا } ويكون { ألم تروا } دليلاً على أول السورة، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس { من يجادل } فلا لهو أعظم من جداله، ولا كبر مثل كبره، ولا ضلال مثل ضلاله، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى: { في الله } المحيط بكل شيء علماً وقدرة.
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه، وكان المجادل قد يكون فهماً، قال: { بغير } أي بكلام متصف بأنه غير { علم } أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى.
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين، لوروده على لسان من لا يعتبر، فإذا أضيف إلى كبير، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه، فظهر على طول حسه، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به، لأن الموضع لها، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم وإن كان جداله متصفاً بالعلم: { ولا هدى } أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها.
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً، قال: { ولا كتاب } أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال: { منير* } أي بين غاية البيان، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك.