التفاسير

< >
عرض

نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ
٢٤
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٥
لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٢٦
وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٧
-لقمان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تشوف المسلم إلى إهلاك من هذا شأنه وإلى العلم بمدة ذلك، وكان من طبع الإنسان العجلة، أجاب من يستعجل بقوله عائداً إلى مظهر العظمة التي يتقاضاها إذلال العدو وإعزاز الولي: { نمتعهم قليلاً } أي من الزمان ومن الحظوظ وإن جل ذلك عند من لا علم له، فلا تشغلوا أنفسكم بالاستعجال عليهم فإن كل آت قريب.
ولما كان إلجاء المتجبرين إلى العذاب امراً مستبعداً، أشار بأداة البعد إلى ما يحصل عنده من صفات الجلال، التي تذل الرجال، وتدك الجبال، وفيه أيضاً إشارة إلى استطالة المحسنين من تمتيعهم وإن كان قليلاً في الواقع، أو عند الله فقال: { ثم نضطرهم } أي نأخذهم اخذاً لا يقدرون على الانفكاك عنه بنوع حيلة، وأشار إلى طول إذلالهم في مدة السوق بحرف الغاية، فكان المعنى: فنصيرّهم بذلك الأخذ { إلى عذاب غليظ * } أي شديد ثقيل، لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه مخلصاً من جهة من جهاته، فكأنه في شدته وثقله جرم غليظ جداً إذا برك على شيء لا يقدر على الخلاص منه.
ولما كان من أعجب العجب مجادلتهم مع إقرارهم بما يلزمهم به قطعاً التسليم في أنه الواحد لا شريك له وأن له جميع صفات الكمال فله الحمد كله، قال: { ولئن } أي يجادلون أو يقولون: بل نتبع آباءنا والحال أنهم أن { سألتهم من خلق السماوات } بأسرها { والأرض } وجميع ما فيها { ليقولن } ولما كان الأنسب للحكمة التي هي مطلع السورة الاقتصار على محل الحاجة، لم يزد هنا على المسند إليه بخلاف الزخرف التي مبناها الإبانة، فقال لافتاً القول عن العظمة إلى أعظم منها فقال: { الله } أي "المسمى بهذا الاسم الذي جمع مسماه بين الجلال والإكرام" فقد أقروا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته.
ولما كانوا يعتقدون أن شركائهم تفعل لهم بعض الأفعال، فلذلك كانوا يرجونهم ويخافونهم، كما أن ذلك واضح في قصة عم أنس الصم وغيرها، أمره صلى الله عليه وسلم بأن يعلمهم أنه لا خلق لغيره ولا أمر، بل هو مبدع كل شيء في السماوات والأرض كما أبدعهما، وأن من جملة ذلك مما يستحق به الحمد سبحانه قهرهم على تصديقه صلى الله عليه السلام بمثل هذا الإقرار وهم في غاية التكذيب، فقال مستأنفاً: { قل الحمد } أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال { لله } أي الذي له الإحاطة الشاملة الكاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره "الأمر أعظم من مقالة قائل" كما أحاط بما تعلمونه من خلق السماوات والأرض، فهو فاعل الإفعال كلها، كما أنه خالق الذوات كلها، ولا شريك له في شيء من الأمر، كما أنه لا شريك له في شيء من الخلق.
ولما كانوا يظنون أن أصنامهم تصنع شيئاً كما قالت امرأة ذي النور الدوسي رضي الله عنه: هل يخشى على الصبية من ذي الشرى، وكما قال قوم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما سب آلهتهم: اتق الجذام اتق البرص، وكما قال سادن العزى، وكما قالت ثقيف في طاغيتهم، حتى أنهم قالوا عندما سويت بالأرض، والله ليغضبن الأساس، حتى حمل ذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على أن حفر الأساس، وكانوا إذا مستهم الضراء لا سيما في البحر تبرؤوا منها، وأسندوا الأمر إلى من هو له كما هو مضمون التوحيد، فكان ربما قال قائل استناداً إلى ذلك: إنهم ليعلمون ما أثبت بالتحميد، قال: { بل أكثرهم لا يعلمون * } أي إن الله هو المنفرد بكل شيء كما أنه تفرد بخلق السماوات والأرض، وأنه لا يكون شيء، إلا بإذنه لأنهم لا يعملون بما يعلمون من ذلك، وعلم لا يعمل به عدم، بل العدم خير منه، وكان القليل هم المقتصدون عند النجاة من الشدة كما سيأتي آنفاً، أو يكون المعنى أنه لا علم لهم أصلاً إذ لو كان لهم علم لنفعهم في علمهم بالله، أو في أنهم لا يقرون بتفرده سبحانه بالخلق والرزق، فيكون ذلك موجباً لتناقضهم وملزماً لهم بالإقرار بصدقك غي الحكم بوحدانيته على الإطلاق. ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال، شرع يستدل على ذلك، فقال مبيناً أن ما أخبر أنه صنعه فهو له: { لله } أي الملك الأعظم المحيط بجميع أوصاف الكمال خاصة دون غيره { ما في السماوات } كلها. ولما تحرر بما تقدم أنهم عالمون مقرون بما يلزم عنه وحدانيته، لم يؤكد بإعادة { ما } والجار، بل قال: { والأرض } أي كلها كما كانتا مما صنعه، فلا يصح أن يكون شيء من ذلك له شريكاً.
ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله: { إن الله } أي الملك الأعظم { هو } أو وحده، وأكد لأن ادعائهم الشريك يتضمن إنكار غناه، ولذلك أظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن كل ما وصف به فهو ثابت له مطلقاً من غير تقييد بحيثيته { الغني } مطلقاً، لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه، وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً. ولما كان الغني قد لا يوجب الحمد لله: { الحميد * } أي المستحق لجميع المحامد، لأنه المنعم على الإطلاق، المحمود بكل لسان ألسنة الأحوال والأقوال، ولو كان نطقها ذماً فهو حمد من حيث إنه هو الذي أنطقها، ومن قيد الخرس أطلقها.
ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبتت أنه على غير ذلك، بل لا حد لغناه، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه، فقال: { ولو } أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو { أنّ ما في الأرض } أي كلها، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله: { من شجرة } حيث وحدها { أقلام } أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام { والبحر } أي والحال أن البحر، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير: ولو أن البحر { يمده } أي يكون مدداً وزيادة فيه { من بعده } أي من ورائه { سبعة أبحر } فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله { ما نفدت } وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال مظهراً للإشارة مع التبرك إلى عدم التقيد بشيء وإن جل: { كلمات الله } وفنيت الأقلام والمداد، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زيادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى، ويتبع الكلمات الإبداع، فلا تكون كلمة إلا الأحداث شأن من الشؤون
{ { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [يس: 82] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة، فهي لا تفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى! ومن كبرياء لا تجارى، ولا تضاهى، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة، وعدم البعث إنكار للحكمة: { إن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلاً { عزيز } أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء { حكيم * } يحكم ما أراده، فلا يقدر أحد على نقضه، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما أورثه، وقد علم أن الآية من الاحتباك: ذكر الأقلام دليلاً على حذف مدادها، وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار، وهو من عظيم هذا الفن، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها، وأن المراد بجمع القلة في "أبحر" الكثرة، لقرينة المبالغة، وبجمع القلة في { كلمات } حقيقتها لينتظم المعنى، وكل ذلك سائغ شائع في لغة العرب.