التفاسير

< >
عرض

قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١١
وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ
١٢
وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ
١٣
-السجدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها تراباً، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب. دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق. فقال مستأنفاً: { قل } أي جواباً لهم عن شبهتهم: { يتوفاكم } أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة { ملك الموت } ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال: { الذي وكل بكم } أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملاً لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين؟.
فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض. علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره فعطف عليه قوله: { ثم إلى ربكم } أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم { ترجعون } بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلاًّ بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملاً.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلاً عن خطابهم استهانة بهم وإيذاناً بالغضب، وخطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفاً على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعاً المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلاً للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور: { ولو ترى } أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين { إذ المجرمون } أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم { ناكسوا رؤوسهم } أي مطأطئوها خجلاً وخوفاً وخزياً وذلاً في محل المناقشة { عند ربهم } المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم، قائلين بغاية الذل والرقة: { ربنا } أي أيها المحسن إلينا { أبصرنا } ما كنا نكذب به { وسمعنا } أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك { فارجعنا } بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان، إلى دار الأعمال { نعمل صالحاً } ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه: { إنا موقنون * } أي ثابت الآن لنا الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك مما كشف عنه العيان, أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً لا يحتمله من هوله وعظمه عقل، ولا يحيط به وصف.
ولما لم يذكر لهم جواباً، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفاً على ما تقديره: إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفاً القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها: { ولو شئنا } أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد { لأتينا كل نفس } أي مكلفة لأن الكلام فيها { هداها } أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.
ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعاً للتعنت وتحقيقاً لأن المراد بالأول العظمة فقال: { ولكن } أي لم أشأ ذلك لأنه { حق القول مني } وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً: { لأملان جهنم } التي هي محل إهانتي وتجهم أعدائي بما تجهموا أوليائي { من الجنة } أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم { والناس أجمعين * } حيث قلت لإبليس:
{ لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ص: 85] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.